هذا الترجيح يأتي من باب معرفة خير الخيرين، وفضل الفضلين، فليس الجميع من الناس يدركون ذلك. فلماذا إذن طُرح الموضوع في هذا الوقت بالذات؟
جوابه: خشية الاستمرار في الاعتقاد الخطأ، إذ عليه وبسببه يترتب من المفاسد والفتن الكثير الكثير، وبعض المفاسد التي نواجهها اليوم ما جاءت إلا نتيجة هذا الخطأ في الفهم. فالأمر جاء لدرء المفاسد وتقليلها.
فمن الناحية النظرية البحتة يتفق العموم على أن مداد العلماء هو الأرجح، لقوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)، فهذا هو الترتيب القرآني لأهل الفضل، النبيين أولا، ثم العلماء فالشهداء، والصالحين من غير العلماء والشهداء. ولكن للأسف فان هذا الاعتقاد لا ينعكس على الواقع إلا بضده،،، فالعموم يتصرفون في حياتهم على أن دم الشهداء هو الأرجح عند الله. وهذا الانفصام بين الاعتقاد والسلوك ناشئ عن أسباب كثيرة.
على رأسها، الهجمة الشرسة على العلماء الربانيين من جهة، والمدح والإطراء على الشهداء من جهة ثانية، أي على ترجيح المدرسة الجهادية على المدرسة العلمية والإفتاء. فأدي ذلك إلى ما نراه من سلوكيات باطلة، فحين يذم الناس احد كبار العلماء، أو هيئتهم كلها، ويتفاخرون بالشهيد اليافع المناضل على حد تعبيرهم، فإن ذلك سيؤدي إلى إقصاء دور العلماء ومنزلتهم في المجتمع من جهة، وإبراز دور المجاهدين ومنزلة الجهاد ورتبته من جهة ثانية. وبهذا الخلل سيتصدر أمراء الجهاد الموقف، وسيأخذون الناس بجهادهم إلى التهلكة ومواطن الزلل بسبب بعدهم عن اقوال أهل العلم. وفي قوله صلى الله عليه وسلم التالي دليل على ما أقول: (حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
لذا فما نراه اليوم من رفع رتبة الجهاد باعتباره هو الحل، من دون العودة إلى الكتاب والسنة، والاستضاءة بنور العلم والاهتداء بفتيا العلماء، ما هو إلا مؤشر قوي ونذير مبكر لما سيلحق بنا من فتن ومحن ستأتي على الأخضر واليابس من جهة، وبعد عن المنهج القويم والصراط المستقيم من جهة ثانية.
فإذا علمنا أن سبيل ذم العلماء والحط من رتبة العلم والإفتاء من جهة، ورفع رتبة الجهاد على رتبة العلم وأهله من جهة أخرى، هو سبيل المفسدين المغرضين ممن لهم علاقة بقصد أم بغير قصد بوكلاء اليهود من الرافضة والاشتراكيين، أدركنا سر نجاح هذه البذرة الخبيثة فينا، وضرورة الوقوف بحزم ضد استمرار انتشارها. ولا يعني ذلك التقليل من رتبة الجهاد أبدا، ولكن الخطر أن يذم أهل العلم ورتبة العلم، وترتفع راية الجهاد ورتبته فوق رتبة العلم وأهله.
فيجب أولا القيام بتسديد الأقوال، ولا يمكن تسديدها بغير تسديد الاعتقاد، فإذا تم لنا تسديد الاعتقاد انصلحت الأقوال والأعمال، وبالتالي انصلحت أمورنا.
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } الأحزاب70
والحمد لله رب العالمين.
حرر في يوم الجمعة 14/12/2012