ليس من المعقول أن تطلب من شعب يُذبح ويقتل ويقطع أن يهتم بالتفريق بين مواقف الدول العربية في الجامعة، ولكن هو موضوع من أجل توضيح أمر غاية في الأهمية قد يكون غاب عن بالنا، فالجامعة العربية ليست كيانا واحدا، وليست دولة واحدة، وليست ذات موقف واحد من الثورة السورية، وإذا كانت أعطت ولا تزال تعطي المهل تلو المهل للنظام السوري، فهذا لا يعني بالضرورة أن هذا هو موقف كافة الدول العربية في الجامعة، بل هناك فرق من الأرض السماء بين ما يمكن تصنيفه برأيي إلى ثلاثة محاور، ومن الضروري هذا التمييز، كي نعرف أصدقاءنا من أعدائنا، فلا يخدعنا أعداؤنا ولا نخسر مساعدة أصدقاءنا، لهذا برأيي أن الجامعة العربية فيها ثلاثة محاور، وهي محاولة لتقريب الأمور، لأن حقيقة ما يجري وراء الكواليس لا أحد يعرفه على وجه الدقة إلا أصحابه.
1- المحور المعارض للثورة السورية وهو محور المقاومة والممانعة واليسار وأصدقاء إيران: وهي دول الجزائر وقطر والسودان وموريتانيا وحكومة المالكي في العراق وحكومة حزب اللات في لبنان واليمن، وهي كانت قبل الثورة السورية على علاقة وطيدة واستراتيجية بالنظام السوري، ثم تفاوتت مواقفها بعد الثورة، ومنها الآن من أصبح محايدا مثل السودان وموريتانيا، ومنها من أصبح بعد فترة وجيزة من الثورة داعما لها ولكن برأيي يريد الركوب عليها لمصالح ومكاسب إقليمية، وهي قطر وأيضا تركيا مع أنها ليست في الجامعة العربية، ومنها ما يزال ضد الثورة السورية، مثل لبنان والعراق والجزائر.
2- المحور المحايد: وهي الإمارات وعُمان والبحرين والسلطة الفلسطينية ومصر، وقد أصبح بعضها الآن مؤيدا للثورة.
3- المحور المؤيد للثورة السورية: وهو مكون من السعودية والأردن وتونس وليبيا الحرة والكويت، وهؤلاء في واقع الأمر داعمين للشعب السوري، ولكنهم يترددون أحيانا بسبب خوفهم أيضا من انتقال الشرارة إليهم، وهذا برأيي هو خوف محق أحيانا لأن بعض الثورات تكون مصطنعة بفعل إيراني مثل الثورة البحرينية، إضافة لخوفهم أيضا من قيام حرب إقليمية أو عالمية.
نجد مما سبق أن محصلة المواقف العربية من الثورة السورية هي النتيجة الطبيعية التي نراها الآن من مهل ومحاولات لإسقاط النظام بطريقة سلمية عبر المبادرة العربية، ويشوبها مزيج من الإيجابيات والسلبيات، وهي تعبر تقريبا عن محصلة الصراع بين مواقف الدول في الجامعة العربية.
من الجدير بالذكر أن موقف قطر هو في الظاهر من أقوى المواقف في دعم الشعب السوري، ولكن وراء الكواليس ثمة من يشكك في حقيقة ذلك والهدف منه، وذلك بالنظر إلى التاريخ القطري في العلاقت السورية، كما أن موقف السعودية الذي يبدو أشبه بالصامت لكنه يعمل وراء الكواليس بجد واجتهاد من أجل دعم الشعب السوري وحقن الدماء، لا أقول هذا من أجل الانحياز، ولكن فقط من أجل الحقيقة والتاريخ، فقد أورد الكاتب السوري مجاهد مأمون ديرانية هذه القصة عن الجهود الكبيرة التي يبذلها وزير الخارجية السعودي:
” لماذا فقد أعصابه (السفير السوري في الجامعة العربية) لتلك الدرجة؟ الجواب قدمه لنا بعضُ من اطّلعوا على الأسرار. لقد ذهب الرجل إلى الاجتماع يوم السبت مطمئناً إلى مواقف جملة من الدول العربية، ومنها الجزائر ومصر والسودان، بالإضافة إلى الدول التي بقيت على تحفظها: لبنان واليمن والعراق. قبل ذلك، مساء الجمعة، اجتمعت اللجنة الوزارية التي تضم قطر (في الرئاسة) والجزائر والسودان وعُمان ومصر. لكن الاجتماع لم يكن عادياً، المفاجأة غير المتوقعة كانت مشاركة وزير الخارجية السعودي. السعودية ليست عضواً في اللجنة، فماذا جاء يفعل؟ سأكرر ما قلته في مقالتي السابقة: سعود الفيصل ليس وزير خارجية كأي وزير آخر، بل يكاد يزيد وزنه على وزن كثير من رؤساء الدول؛ اقرؤوا ما كتبته عنه في تلك المقالة. لماذا شارك وماذا فعل؟ لا أعلم التفاصيل، ولكن العارفين قالوا إن وجوده غيّر موقفَي مصر والجزائر من الامتناع إلى القبول. السودان كان قد غير موقفه أيضاً بعد زيارة وفد من المجلس الوطني للسودان خلال اليومين الماضيين، وهكذا أُحكم تدبير المشروع بِلَيل، فلما جاء يوسف الأحمد إلى الاجتماع نهاراً فوجئ بالحبل يلتف على رقبته!” المصدر: النظام في نفق الموت
وهذا ما قاله عن السياسة الخارجية للسعودية:
“لقد كان التصريح الملكي السعودي واحداً من أهم الأسباب التي أقنعتني بأن الأحداث كانت تتجه إلى انفجار وشيك في ذلك الوقت، وهي قناعة مبرَّرة بالنظر إلى الطريقة التي تعمل بها الدبلوماسية السعودية. أنا عشت في المملكة العربية السعودية ثلث قرن أو يزيد، وأشهد أن دبلوماسيتها من أكثر الدبلوماسيات رصانة في العالم، ولا أبالغ إن قلت إن وزير خارجيتها لا يقل وزناً عن كثير من رؤساء الدول، وقد لا يعلم كثيرٌ من الناس خارج السعودية (وفي سوريا الثورة تحديداً) أن المملكة العربية السعودية لم تعرف في تاريخها الطويل سوى وزيرَي خارجية فقط، الأمير سعود حالياً ووالده فيصل (للدقة أكثر كان الأمير ثم الملك فيصل وزيراً للخارجية لمدة ثمان وأربعين سنة تخللتها سنتان تولى فيهما الوزارةَ غيرُه، ثم تولى ابنه سعود المنصب منذ وفاة الملك فيصل قبل ست وثلاثين سنة إلى اليوم). في الأحوال العادية يمكن أن تعبّر المملكة عن موقفها الرسمي ببيان صادر عن وزارة الإعلام، وإذا كان الموضوع مهماً جداً ومن الوزن الثقيل فسوف يقوم بذلك وزيرُ الخارجية نفسه، أما الملك؟! ليس من المألوف أبداً أن يظهر الملك على الشاشات ليقدم تصريحاً موجزاً يوضّح فيه موقف المملكة من موضوع خارجي.
لقد كان ذلك التصريح علامة مهمة، بل علامة شديدة الأهمية، وإن شئتم رأيي فقد كان “صفارة البداية” للمباراة الختامية. وقد رأينا آنذاك تسارعاً غريباً في المواقف العربية والدولية وكأنها قطار منطلق في طريق شديد الانحدار، وفجأة توقف قطار الأحداث المتسارعة في وسط المنحدَر! هذا أمر مشاهَد لا جدال فيه، لكن التعليل يحتمل الأخذ والردّ. ربما توقف بسبب تأخر ولادة المجلس الوطني، وهو احتمال كبير لأسباب كثيرة سبق توضيحها في غير هذه المقالة، وربما توقف بسبب ضغوط مارسها اللوبي الصهيوني بقيادة الآيباك على الإدارة الأميركية، وهو سبب تناقلته بعض الأخبار والتحليلات غير الموثوقة، وربما توقف لغير هذا وذاك من أسباب… هذا اللغز سوف تكشفه الأيام ولا أهميةَ كبيرةً له في موضوع اليوم، لذلك لا بأس في أن نقفز من فوقه الآن وننتظر قراءة تفصيلاته في الكتب التي ستصدر خلال السنوات القادمة.” المصدر: ماذا بعد المبادرة العربية؟
كما يُذكر للأردن دعمه للثورة السورية، فقد سمحت السلطات باعتصام الجالية السورية أمام السفارة السورية في عمّان، وهو قد يكون الاعتصام الوحيد المستمرّ لدعم الثورة السورية خارج سوريا، إضافة إلى أن الملك الأردني أول زعيم عربي في التاريخ يطلب من زعيم عربي آخر الرحيل، مع ما تعنيه هذه العبارة من تبعات ومسؤوليات.
لكل ما سبق يجب برأيي عدم التعميم في الهجوم على الجمعة العربية ودولها، فهناك تعدد في المواقف من الداعم جدا لنظام بشار إلى الداعم جدا للشعب بالسوري.