عندما تعقد مؤسسة الفكر العربي مؤتمرها الأخير، الذي عقدته في دبي، تحت عنوان: «ماذا بعد الربيع العربي؟»، فإن هذا يلخص كل المخاوف التي بدأت تساور بعض الذين راهنوا على أن هذه الثورات ستأتي بمستقبل مزهر وواعد، طالما أن الأنظمة التي طالبت ساحات وميادين التحرير بسقوطها قد سقطت، لكنهم سرعان ما أصيبوا بالإحباط وباليأس عندما وجدوا أنفسهم أمام كل هذه المستجدات المقلقة التي لم يكونوا يتوقعونها، وذلك إلى حد أن بعضهم بسبب عدم فهمهم لقوانين الثورات التي يقول بعضها: «إن الثورات يصنعها الشجعان ويقطف ثمارها الانتهازيون»، قد بدأوا يتحسرون على الماضي القريب ويتمنون لو أن حسني مبارك يعود ليعود معه الأمن والاستقرار ولتنتهي كل هذه الفوضى التي أغرقت البلاد والعباد.
وبالطبع فإن هذه حالة نزق مثلها مثل من لا يجد في لحظة من اللحظات القاسية إلا أن يضرب رأسه في الحائط أو يشد شعر رأسه بعنف وبقوة أو يعض على شفته السفلى حتى يدميها، فالناس الذين لجهلهم بقوانين الثورات وظروفها والمعاناة التي لا بد من أن تصاحبها والتي تشبه الأوجاع التي تعاني منها المرأة لحظة ولادتها، ظنوا أن الانتقال من الحاضر الذي أصبح الآن ماضيا إلى المستقبل المزهر الذي يحلمون به سيكون سهلا وسيتم بلا عوائق ولا منغصات وفي لحظة «كن فيكون».
ما كان الذين ظنوا أن هذه الثورات ستنقلهم من واقع مأساوي ومؤلم إلى الواقع الجديد الذي يتوقعونه بلمح البصر وبسرعة أنه سيكون هناك كل هذه الانفلاتات الأمنية وكل هذه الفوضى العارمة وكل هذه المعاناة وكل هذه الطوابير من الانتهازيين والمتسلقين وكل هذه الظروف الاقتصادية المأساوية والبائسة وكل هذا التنافس الاستقتالي بين الأحزاب والتنظيمات التي بقيت تنتظر على الأرصفة، عندما كان الشبان الثائرون يملأون الشوارع والساحات العامة ويستقبلون الرصاص بصدورهم العارية بشجاعة منقطعة النظير، وعندما تأكدت من الانتصار سارعت إلى ركوب الأمواج وإلى سرقة إنجازات حققها هؤلاء الشبان مما أدى إلى كل هذا الإحباط وهذا اليأس وإلى الانخراط في التحسر على الماضي القريب والتمني بأن تعود الأنظمة المطاحة بكل أخطائها وخطاياها وبكل فسادها وتجاوزاتها، وذلك لأنها حسب هؤلاء كانت توفر الأمن على الأقل.
كل الثورات التي عرفها التاريخ، وفي مقدمتها الثورة «البلشفية» في عام 1917 التي أسقطت حكم القياصرة من أسرة رومانوف الشهيرة وجاءت بحكم الحزب الشيوعي بقيادة فلاديمير لينين وجوزيف ستالين والثورة الصينية التي قادها ماوتسي تونغ مستندا إلى حزب شيوعي منظم تنظيما حديديا، ومن بينها ثورات التحرير كالثورة الفيتنامية والثورة الجزائرية، قد عانت في بداياتها من مثل هذه الارتباكات ومن مثل هذه الفوضى التي نراها الآن في مصر وفي تونس وفي ليبيا وسنراها بالتأكيد في اليمن وسوريا وفي كل الدول التي ستغشاها هذه الأمواج العاتية، والمعروف أن الثورة الفرنسية العظيمة، التي قلبت بالنتيجة أوضاع فرنسا رأسا على عقب وأوضاع أوروبا كلها، كانت ثورة مقاصل وسجون ومعتقلات وإعدامات بلا محاكمات، وكانت ثورة فوضى عارمة أدت إلى حروب إقليمية طاحنة وإلى ويلات كثيرة.
إن مشكلة هذه الثورات العربية، التي أصابت كثيرين بالإحباط واليأس وجعلتهم يتحسرون على الماضي القريب ويتمنون عودته سريعا، أنها جاءت كهبات شبان متحمسين كان هدفهم إسقاط الأنظمة الجائرة والظالمة والمستبدة، لكن من دون أن يكون لديهم أي تصور تفصيلي عن الأنظمة البديلة التي يريدونها والتي تنتظرها شعوبهم، وهذا هو ما أدى إلى كل هذا التخبط وإلى كل هذه الفوضى وإلى اضطراب حبل الأمن والانهيارات الاقتصادية، وإن ما زاد في مأساوية هذه الأوضاع أن الأحزاب التي سارعت إلى اختطاف هذه الثورات وسرقتها لم تبادر إلى التخلي عن مفاهيمها القديمة وإلى التلاؤم مع معطيات الألفية الثالثة، وبقيت لا تقبل بالآخرين ولا بمشاركتهم لها حتى في مرحلة من المفترض أنها انتقالية وتستدعي حضورا، إلى جانب حضور «الإخوان المسلمين» والتيارات الإسلامية، للاتجاهات اليسارية والقومية كلها وللأقباط في مصر وأيضا للأمازيغ في ليبيا مع أنهم لا يشكلون إلا أقلية صغيرة تكاد تكون محصورة في المنطقة الغربية من البلاد.
وهنا فإن الاعتقاد الذي يصل لحدود اليقين أن الأمور في اليمن ستسير على الطريق الصحيح نظرا لوجود أحزاب فعلية وحقيقية ولها وجود وامتداد في القاعدة الشعبية العريضة، وكل هذا إذا لم يعد علي ناصر محمد إلى ألاعيبه المعروفة وإذا لم يغتنم أي فرصة تلوح له لـ«يخرب» كل شيء ويعيد الأمور إلى المربع الأول ونقطة الصفر، وإذا لم تتلاحق الأوضاع في التردي ويقع «التشطير» مرة أخرى.
ثم إن الاعتقاد الذي يصل إلى حدود اليقين أيضا أن الثورة السورية، التي تختلف كثيرا عن مثيلاتها في تونس ومصر وليبيا واليمن في أنها عمت سوريا كلها باستثناء المناطق الطائفية المغلقة المعروفة وأنها تواجه نظاما قمعيا واستبداديا لا مثيل له إلا نظام بول بوت الشهير في كمبوديا، قد استفادت من أخطاء الثورات العربية الأخرى، وأنها بادرت إلى إعداد صياغة لطبيعة النظام الذي يريده الشعب السوري، إن في الخطوط العامة وعلى أساس الديمقراطية والحريات العامة والقبول بالآخرين ورفض الطائفية البغيضة.
لن يكون حزب جماعة الإخوان المسلمين السوري كحزب الحرية العدالة المصري الذي هو وجه العملة الآخر لـ«الإخوان المسلمين» هناك، فالتجربة السورية الجديدة هي غير تجربة مصر، والواقع الاجتماعي في سوريا هو غير الواقع الاجتماعي في مصر، ولهذا فإن موقف «الإخوان» السوريين من علمانية رجب طيب أردوغان هو غير موقف «الإخوان» المصريين من هذه العلمانية التي عندما دعا إليها صاحبها خلال زيارته الأخيرة إلى القاهرة وُوجه من قبل الذين من المفترض أنهم «إخوانه» بالرفض والتنديد وباتهامات غير صحيحة ومتهورة كثيرة.
في مصر تقتصر التعددية الطائفية على الأقباط المسيحيين فقط، أما في سوريا فإن هذه التعددية تشمل السنة والعلويين والدروز الموحدين والمسيحيين بكل طوائفهم ومذاهبهم، وكل هذا بالإضافة إلى الشيعة والأرمن والأكراد وبعض ذوي الأصول التركية، وهذا يجعل الثورة السورية مجبرة وملزمة منذ الآن حتى قبل الانتصار بتحديد النظام البديل لهذا النظام على أساس التآخي بين هذه الطوائف والمذاهب والإثنيات كلها، وعلى أساس الوطنية المتكافئة والمشاركة للجميع من دون إقصاء ولا طائفة ولا إثنية واحدة.
ويبقى في النهاية أنه لا بد من إيضاح أن معظم الذين يتخوفون مما قد ستنتهي إليه هذه الثورات العربية يأخذون في اعتبارهم تلك التجارب المُرة حقا التي رافقت حكم أنظمة الانقلابات العسكرية، كلها ومن دون استثناء، بدءا بانقلاب يوليو (تموز) عام 1952 في مصر وانتهاء بانقلاب موريتانيا الأخير الذي ليطيل في عمره بادر إلى استبدال الملابس العسكرية بملابس مدنية، التي أعلنت نفسها كثورات عصرية تحمل ألوية المساواة والحريات العامة والديمقراطية لكنها تحولت منذ اللحظة الأولى إلى أنظمة استبدادية وقمعية وأنظمة فساد وخراب وتجزئة.
كل الانقلابات العسكرية السورية من انقلاب أديب الشيشكلي وحتى انقلاب حافظ الأسد على رفاقه من قادة حزب البعث قد ادعت أنها ثورات ترفع أنظمتها راية الحرية والديمقراطية، بينما هي أنظمة استبدادية وظلامية وليس لها علاقة بالثورات الحقيقية، وهذا ينطبق على انقلابات العراق من انقلاب عبد الكريم قاسم وشركائه في عام 1958 وحتى انقلاب صدام حسين في عام 1979، وعلى انقلابات اليمن الجنوبي واليمن الشمالي، وانقلابات السودان، وانقلاب العقيد الذي لا مثله انقلاب، وأيضا وقبل هذا كله، انقلاب جمال عبد الناصر الذي قاد مصر إلى كل هذه السلسلة الطويلة من المآسي وانتهى بها إلى هذه النهاية التي انتهى إليها حسني مبارك.
نقلا عن الشرق الأوسط