«ألا يحق للفريق بشار أن يؤدي التحية العسكرية للمشير طنطاوي. ثم يسأله: سيدي المشير. لماذا يعاقب العرب الجيش السوري، ويتسامحون مع الجيش المصري، مع أن الجيشين التقيا على التصدي بالقوة، للانتفاضة المتمردة على النظام والقانون؟»
مشكلتي أن هاتفي الشخصي معروف أكثر مني، منذ أن كنت أتلقى عليه تهديدات شبيحة صدام، إلى أن بت هدفا لتهديدات شبيحة بشار. وقد ظن أحدهم أنه يحرجني بعقد هذه المقارنة الهاتفية بين المشير والفريق. (بشار يحمل رتبة فريق بعد دورة رئاسية خاطفة. والأرجح أن يمنحه المشير داود راجحة وزير الدفاع السوري صفة «أركان حرب»، إثر الهجمة الحربية التي أودت بحياة 3500 سوري، حسب إحصاء بان كيمون).
لم أرد. إنما أدعو العرب إلى استعادة خطاب المشير طنطاوي، وهو يذكر الأغلبية المصرية الصامتة المتعاطفة معه، بالموقف الوطني للجيش المصري في الانحياز للانتفاضة، وحمايتها، وتنفيذ معظم مطالبها. وفي مقدمتها ترحيل نظام الفريق مبارك، الأمر الذي لم يفعله إلى الآن جيش المشير راجحة، ضد نظام الفريق أركان حرب العائلة والطائفة.
الفرق شاسع بين الجيشين. الجيش المصري مؤسسة وطنية منضبطة. مؤسسة عسكرية ذات ثقة ومصداقية لدى المصريين. مؤسسة لم تهزها تقلبات الانتفاضة. وقد تعهدت سلفا باحترام الانتفاضة والديمقراطية، وسمحت بقدر لم تعرفه مصر، من الحريات السياسية والإعلامية.
المشير طنطاوي بالذات (76 سنة) ضابط محترف. خاض حروب مصر على مدى أربعين عاما. نعم، لم يقد تمردا على مبارك. إنما قاد المجلس العسكري الأعلى، في الانحياز إلى انتفاضة شعبية عارمة، ضد نظام استنفد فرص إصلاحه.
كان المشير طنطاوي من الجرأة والصراحة، بحيث أنصف مبارك أمام المحكمة. قال إن الجيش لم يتلق أمرا من مبارك باستخدام القوة ضد الانتفاضة. لم يحكم المشير طنطاوي مصر. لم يقم بانقلاب. إنما اكتفى بإدارة الأزمة. القوى السياسية والشبابية والدينية استغلت قلة تجربة المجلس العسكري السياسية، في توريطه بأخطاء كبيرة. تراجع المجلس. استشار. اعتذر. لكن ظل متمسكا بواجبه الوطني. وهو يدرك أنه لو تنحى. أو انهار، لما خرجت مصر من المرحلة الانتقالية المضطربة.
كعربي، قد أبدو منحازا إلى المجلس العسكري. إنما أنا مجرد مقدر. ومتفهم لموقفه الصعب. ومتعاطف معه طالما أنه ملتزم بنقل السلطة. ذلك لا يعني أن أخطاء مريرة لم تحدث. في مقدمتها، الاستفتاء المبكر والتسرع على التعديلات الدستورية في مارس (آذار) الماضي، بحيث ظهر المجلس العسكري، وكأنه منحاز إلى القوى الدينية المتسيسة.
الخطأ الثاني عدم ترتيب الأولويات الانتقالية. ربما كان من الأفضل انتخاب رئيس للجمهورية، قبل وضع الدستور وإجراء الانتخابات التشريعية. رئيس جديد يلزم القوى السياسية والدينية بوثيقة وفاق وطني، تحدد معالم وملامح الدستور، لتتقيد به غدا اللجنة النيابية المكلفة بوضعه.
الخطأ الثالث وثيقة علي السلمي الحكومية التي اقترحت منح المؤسسة العسكرية استقلالية تامة عن السلطة المنتخبة. هذه الوثيقة مخالفة لكل عرف ديمقراطي. وفقه دستوري وقانوني، في إخضاع كل المؤسسات المدنية والعسكرية للرقابة والمناقشة والإقرار، في مجلس النواب.
وإذا كان من عذر للمجلس العسكري في الخدمة المتحمسة لوثيقة السلمي، فهو الخوف على سرية الأمن القومي. وحماية المؤسسة من اختراق الأحزاب والتيارات المختلفة لها، والعبث بحيادها. وتسييسها. بالإضافة إلى حرص المجلس العسكري على الذراع الاقتصادية للمؤسسة العسكرية التي تنتج وفرة من السلع المرغوبة محليا.
الخطأ الرابع لجوء المجلس العسكري إلى الاستعانة بقوات مكافحة الشغب (جهاز الأمن المركزي الذي يضم 150 ألف شرطي) قبل إعادة تدريبها وتأهيلها ديمقراطيا، للتعامل مع مجتمع مدني حر. معتز بكبريائه.
الأمن مفتاح الاستقرار. عنف شباب الانتفاضة قوبل بقمع مفرط في استخدام القوة. سقوط ضحايا أدى إلى عودة الشباب إلى ميدان التحرير. اعتذر المجلس العسكري بتواضع. اضطر إلى التراجع. لكن القوى الأمنية والمسلحة دافعت بقوة مستميتة عن وزارة الداخلية ومراكز الشرطة والأمن، إيمانا بأن لا استقرار بلا أمن. ولا أمن من دون رد الاعتبار للشرطة وهيبة الدولة.
الإقامة الطويلة في أوروبا جعلتني أهتم بجدلية العلاقة المزمنة بين الأمن والعنف. تم تدريب قوى المجتمع المدني وقوى الأمن على التعامل باحترام متبادل. حققت ديمقراطية الاحتجاج السلمي مكاسب وضمانات اجتماعية ضخمة للعمال، من دون خسارة الحرية السياسية. ديكتاتورية طبقة البروليتاريا أدت إلى انحياز النظام الماركسي. فقد حقق مكاسب مماثلة للمجتمع، لكن على حساب التغييب (المستحيل) للحرية السياسية.
استخدم شباب الانتفاضة المصرية عبقرية المكان (ميدان التحرير) منطلقا لصدام عنيف مع المجلس العسكري وقواه الأمنية والمسلحة. وتركوا «الإخوان» يخطفون الانتفاضة. يسرقون شعاراتها. ويورطون الشباب في مواجهة مع العسكر، ثم انسحبوا ليحتكروا المعركة الانتخابية. كسب الإخوان حربا لم يخوضوها. ويطمحون إلى ترجمتها لنصر انتخابي باهر.
انتهازية الإخوان قابلتها «غوغائية» شارع الانتفاضة. بعد مليونية عرض العضلات الانتخابية والدعائية التي استفزت أعصاب المجلس العسكري. وألقت بشعاراتها الغيبية الرعب في قلوب الأكثرية الصامتة، من حكم يتقمص القداسة، عاد الشباب إلى الميدان للثأر من الجميع:
المجلس العسكري. الإخوان والقوى السلفية. الوفد والقوى الليبرالية واليسارية، متخلين عن الديمقراطية. منسحبين من المعركة الانتخابية. وكأنهم يعترفون بعجزهم «الفوضوي»، أمام القوى الدينية الأكثر شعبية. وخبرة. وتجربة.
ماذا يفعل المجلس العسكري أمام مهارة الإخوان في التحرك من موقع التحدي، إلى موقع الولاء والتأييد؟ هل الإخوان صادقون في إظهار الود للعسكر، ودعوتهم الشباب للعودة إلى بيوتهم؟ أم أنهم يداهنون العسكر في انتظار الحصول على الشرعية الانتخابية. بعد ذلك، يطالبونهم بالخضوع لمشيئة «الأغلبية» النيابية، وسلطتها التنفيذية التي سوف يمسكون بسيفها الخشبي، في انتظار سقوط السيف العسكري؟
المشير طنطاوي يملك خيارا قويا. فقد هدد باللجوء إلى استفتاء شعبي، يعرف سلفا أنه سوف يكسبه ضد غوغائية الشارع، وانتهازية الإخوان. لكن هل المجلس العسكري راغب أو قادر على تحدي المحور الثلاثي (أميركا. تركيا. قطر) الذي يلقي بثقله السياسي والمادي وراء الإسلام الإخواني؟
بعد أربعين سنة، تعود أميركا إلى الرهان على طبعة أنيقة ومُنَقَّحَة للإسلام السياسي. راهنت سابقا على الإسلام الحديدي، وعلى أنظمة جمهورية، برزت فجأة كالفطر في الفضاءات العراقية. السورية. السودانية. الليبية…، حاملة شعارات القومية الناصرية، لكن في قوالب داخلية تعسفية. ومحتكرة للسلطة.
احترقت أصابع أميركا في ازدواجية الرهان على جمهوريات قمعية وإسلام حربي متقشف. وبلا خيال. هل تسلم أصابع أميركا في الرهان على جمهورية إخوانستان مستعدة في طبعتها «المودرن» لحلق اللحى، ومهادنة إسرائيل مستكملة استيطان الضفة وتهويد القدس؟
لا أعرف. إنما أخشى أن تحترق أصابع عربية وهي تخوض تجربة أكبر من تجربتها. وخبرتها.