هل العلمانية الإقصائية أم العقلانية التوافقية شرط الديمقراطية ؟
مقدمة : في الوقت الذي يخوض فيه الشعب السوري العظيم معركته الديمقراطية الكبرى ضد النظام الشمولي ، تعمل المليشيات الثقافية على تحويل الأنظار عن التناقض الأساسي بين القوى الديمقراطية الشعبية والقوى الاستبدادية السلطوية، والإعلاء من شأن التناقضات الثانوية على حساب الأساسية ، وذلك من خلال تأجيج الحروب الأيديلوجية ، وممارسة الابتزاز الفكري والثقافي والسياسي فيما بين التيارات الفكرية والقوى السياسية التي تتوزع الساحة السورية ، من خلال الإصرار المستمر على إثارة موضوع الحتمية التلازمية بين العلمانية والديمقراطية ، خاصة في ظل الظروف الحساسة التي يجتازها قطرنا ، وذلك كشرط مسبق للمساهمة في إسقاط النظام الحالي ، وبناء النظام الديمقراطي الجديد ، وطرحها لشعار (لا ديمقراطية دون علمانية جوهرية) ، ونعتقد أن الهدف الأساسي المتواري وراء هذه الأطروحة العَلْموية هو شق وحدة القوى الوطنية من خلال إثارة المعارك الجانبية وإبعادها عن إقامة كتلة وطنية موحدة على قاعدة تحقيق الديمقراطية ، المتبعةِ أسلوب النهج الديمقراطي أولاً والأيديولوجي ثانياً ، حيث إن الواقع الموضوعي يفرض علينا منطق الاقتراب لا الافتراق ، وضرورة الاقتصار على تفاهمات الحد الأدنى الجامعة دون التفاصيل المقسمة بين القوى الوطنية المعارضة ألا وهي : إسقاط النظام السياسي بكامل أركانه ورموزه تمهيداً لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية المدنية .
ونود أن ننوه أولاً إلى الدور الوطني والمشرف للتيار الليبرالي – العلماني الأصيل في تصديه لمهمة إسقاط النظام ، وائتلافه مع بقية القوى الوطنية وابتعاده عن إثارة أية معارك ثانوية في المرحلة الحالية ، كما ننوه ثانية أن ردنا على الأطروحة المذكورة أعلاه لا يستهدف بتاتاً تقييم النظرية العلمانية من حيث القبول أو الرفض ، وإنما يستهدف دراسة العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية من حيث ضرورة التلازم أو الانفكاك بينهما ، سواءً قبل إسقاط النظام أو حين الشروع الفوري ببناء النظام الديمقراطي المأمول .
الأطروحة العلمانية حول الديمقراطية الجوهرية (العلمانية أولاً !!):
للتغطية على عدائهم لثورة الشعب الحالية ، أو تبرير الحياد تجاهها ، وتواجدهم غير المنظور في الساحة السياسية ، يقوم العلمانيون الجهاديون بإلقاء شروطهم لتأييد الثورة ودعمها ، وأولها التبني المبدئي والصريح والفوري لما يسمى بالعلمانية السياسية (فصل الدين عن الدولة ) ، وضرورة استناد الديمقراطية إلى القيم الثقافية الصارمة والحديِّة القائمة على العلمانية المصادمة بالصيغة المُنْتَجَة غربياً ( فرنسا تحديداً !) ، والتأكيد على أهمية الارتباط العضوي والتلازمي بين العلمانية والديمقراطية باعتبار الأولى رافعة للثانية ، والتي يطلقون عليها (القيمة الجوهرية للديمقراطية ) والمصاغة في القرن الثامن عشر من قبل المفكرين التنويريين في الغرب ، والملفت للنظر أنهم يطلبون كل ذلك قبل إسقاط النظام القائم ، والدخول في العملية السياسية لبناء النظام الديمقراطي التعددي المُرتجى .
ويرفض العلمانيون الجهاديون رفضاً قاطعاً ضرورة البدء بالاشتغال الإجرائي – العملي للديمقراطية كآلية لإدارة الشأن العام والحكم ، وينعتونها بـ ( الديمقراطية الشكلانية) ، بل يذهبون إلى اعتبار ديمقراطيتهم قلعة أيديلوجية مسلحة بعلمانية متزمتة ، وقوة مناهضة للعقائد والأديان على شاكلة الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية (دين جديد هم مؤسسوه ومفسروه وحراسه) يمنحون الشهادات الديمقراطية لمن شاؤوا ويحجبونها عن من شاؤوا والتي لا تعني عندهم سوى الأخذ بالمضامين الفكرية والحُمولة الأيديولوجية الكامنة وراءها، واعتبار العلمانية الشرط الأول للموافقة على البدء بأي تحرك شعبي ديمقراطي(ضرورة الختم الأيديولوجي- العلموي!)،وكأن الثورة السورية الديمقراطية المشتعلة تنتظر شرطهم هذا ، أو أنها قامت دون توفر الشروط الموضوعية والذاتية للثورات .
إن العلمانية المقاتلة المتمركزة على ذاتها والمُقصية للآخر الوطني تعتبر نفسها جزيرة استنارة وسط محيط من التخلف الثقافي والسياسي ؛ لذلك فهم لا ينسبون عدم تحقيق الديمقراطية إلى النظام الاستبدادي شديد الوطأة ، بل إلى تجذر الثقافة التراثية الاستبدادية في المجتمع ، ومقاومته القيم الثقافية الديمقراطية من خلال تسييس الدين ، وتديين السياسة.
غير آخذين بالاعتبار الإصلاحات الدينية والثقافية والأدبية التي تمت خلال القرنين الماضيين وما زالت مستمرة ، وأن العائق الأكبر أمام نهضة الأمة وازدهار الأوطان هو عدم الانخراط في الحداثة السياسية (الديمقراطية) ومتغافلين عن الممارسات الاستبدادية للنظام السوري واستخدامه كافة أدوات القمع دون أدوات السياسة (قانون الطوارئ – قتل – اعتقال – تشريد – حصار المدن والبلدات والقرى ) وسعيه الدائب والمستمر على إثارة الغرائز الأيديولوجية والعنصرية والطائفية بين أبناء الشعب الواحد وقواه الوطنية المتعددة ؛ للدفع بعسكرة الثورة وتطييفها خصوصاً في مجتمعنا المركب ؛ ليثبت للرأي العام الداخلي والخارجي أنها حركة سلفية مسلحة وليست ثورة شعبية ديمقراطية مدنية – سلمية.
إن ما يسري اليوم بين أبناء الشعب السوري الواحد من روح شعبية جديدة ،هو ثورة وطنية ديمقراطية بكل المقاييس الثورية المعروفة ، من حيث توفر شروطها الموضوعية والذاتية ، ومن خلال مشاركة كافة الفئات المجتمعية وانتشارها الجغرافي الواسع ، ومساهمة كافة القوى الوطنية فيها، والإصرار الشعبي الفولاذي ، والأهم من ذلك كله هو أنها نابعة من متطلب وطني داخلي وبالتالي هي ليست صراعاً على السلطة كما يدعي الميليشيوي الأول : ( أدونيس) وإنما هي صراع يستهدف دخول العصر ، وبناء المجتمع الجديد والقائم على المواطنة ، وإلا كيف تكون الثورات ؟ إن لم تكن وعي ضرورة تغيير المسار الاجتماعي برمته عقب انسداد الحالة الوطنية !
إن العلمانية المتطرفة تُؤثر أن ترى حاكما مستبداً ( صاحب مشروع حداثوي – تنويري !) على أن ترى قيام نظام سياسي ديمقراطي إجرائي تتوافق على إقامته كافة القوى الإسلامية والوطنية والقومية والليبرالية المنفتحة على الآخر الوطني ؛ لأن ذلك سيكشف مدى ضحالة أطروحتهم ، وانكشاف شعبيتهم في الشارع السياسي ؛ لذا كان من محرماتهم فتح المجال السياسي أمام المشاركة الشعبية الواسعة وقواها الوطنية المتعددة ، التي لا تؤمن بالعلمانية المتطهرة كمدخل وحيد للعملية الديمقراطية .
إن من الطبيعي عند هؤلاء تسييج الديمقراطية بالمطلب العلماني كشرط مسبق لدخول أي فصيل وطني للحياة السياسية ، منعاً للتسلل السياسي المعادي! والعمل على استبعاد كافة القوى الوطنية الأخرى ، غير المُعَلمنة ، التي لا تأخذ بالديمقراطية الجوهرية (فصل الدين عن الدولة ) سبيلاً حتى لمجرد البدء بإقامة النظام السياسي الديمقراطي.
الأطروحة الديمقراطية الإجرائية (الآلية التوافقية أولاَ) :
من خلال استقراء التجربة الغربية ، يبدو لنا أن العلمانية السياسية (الفصل الوظيفي بين الكنيسة والدولة ) ، لم تكن حينها خياراً أيديولوجياً وترفاً تنظيرياً لتيار فكري محدد ، وإنما كانت خياراً إجرائياً – عملياً لتسوية معضلة الانقسام الطائفي ومحاكم التفتيش (شق الصدور) .
إن مقاربة المسار الديمقراطي السلمي للثورة السورية الحالية مع مسار التجربة الديمقراطية الغربية يفرض علينا ضرورة الأخذ بالمنهج العقلاني الواقعي المتمثل بالخيار الديمقراطي الإجرائي – التطبيقي ، وتأجيل أو تحييد طرح الخيار الأيديولوجي الجوهري للديمقراطية لما بعد إسقاط النظام ، والاشتغال عليه كآلية للحوار بين كافة القوى الوطنية وقبولها به ، مما يعني توسل الديمقراطية بالديمقراطية سواءً كانت جوهرية علمانية أو إجرائية توافقية ( الشعب بالشعب وللشعب).ألا يبدو أن من يرفض الآلية يُقْصي الديمقراطية ؟!
إن المعركة الديمقراطية الحالية مع النظام القائم تتطلب حشد جهود جميع التيارات الفكرية والقوى السياسية الديمقراطية ضمن تكتل واحد وسلوك سبيل الديمقراطية الإجرائية سبيلاً لإقامة الدولة الوطنية المدنية دون إقصاء (إسلامي أو يساري،أوقومي،أو ليبرالي).
إن الديمقراطية ليست مذهباً عقائدياً مغلقاً على شاكلة الأيديولوجيات الشمولية ، بل هي في الأساس جملة من الآليات الإجرائية – العملية التي تسمح بإدارة الشأن العام بصورة صحيحة ، وهي الحصيلة التي تنشأ من التفاعل الإيجابي بين الجماعات والأفراد الذين لهم مصالح وقيم متباينة يحاولون تحقيقها أو تحسينها باتخاذ خيارات واستراتيجيات محددة ومتابعة تنفيذها .
إن الحداثة السياسية (الديمقراطية) ملكية مشتركة للناس أجمعين ، يأخذ بها من يشاء ويتركها من يشاء ، والتي لا يجوز اختطافها من قبل فصيل سياسي واحد واعتبارها ملكية خاصة به ؛ لأن الآليات الديمقراطية قد تأخذ بها قوى علمانية لا دينية أو قوى دينية لا علمانية ، بل أن هناك أحزاباً إسلامية ديمقراطية وأحزاباً علمانية غير ديمقراطية ، أو العكس ؛ لذا كان من الصعب علينا التسليم بانتفاء الديمقراطية لغياب العلمانية .
وتفيد التجارب السياسية للعديد من الدول والشعوب أن العلمانية الجذرية – الراديكالية – يمكن أن تمارس الاستبداد والإكراه في مواطن وظروف محددة وقد تكون قرينة الانفتاح والتسامح في ظل ظروف أخرى ، حيث البلدان الأكثر علموية في العالم العربي هي البلدان الأكثر دموية واستبداداً وتسلطاً وقهراً ، في حين أن البلدان المنعوتة بالمحافظة فهي الأقل استبداداً وتعدياً على حريات الناس وحقوقهم .
إن الملاحظة العيانية للثورة السورية الديمقراطية تدفعنا إلى ضرورة الابتعاد عن التعميم المجرد ، والنقل المعلب لنماذج الآخرين ، وضرورة الأخذ بالقيم الديمقراطية الأكثر مرونة وواقعية ، والعمل على تَبْيِئة الأفكار والقيم الثقافية الوافدة مع واقعنا السوري الخاص ، واستيعاب العلاقة الجدلية بين العام والخاص ، كي لا تتم جرجرة الواقع ليتطابق والنظرية العلمانية وديمقراطيتها الجوهرية ، وفي الوقت نفسه عدم إهمال الاسترشاد بالنظرية الجوهرية طالما حافظت على علميتها في تفسير الواقع القائم بالشكل الموضوعي العقلاني.
الخلاصة :
بغية الحفاظ على وحدة الصف الوطني بين جميع التيارات الفكرية والقوى الوطنية المتعددة ، على قاعدة تحقيق الديمقراطية الهادفة لإسقاط النظام السياسي السوري بكافة أركانه ورموزه ، ندين بشدة تأجيج الصراعات والفتن الأيديولوجية بين القوى الوطنية الديمقراطية ونعتبرها عملاً مليشيوياً تخريبياً لا يستهدف إلا إجهاض الثورة الوطنية الديمقراطية للشعب ، وإقصاء القوى الوطنية والقومية والإسلامية والليبرالية- الحقيقية – المعارضة عن الساحة السياسية ، والتي يكون فيها النظام هو الرابح الأكبر حتماً، وهذا ما يفرض عليها ضرورة الالتزام بـــــ :
وقف إطلاق النار الفكري – وقف إطلاق النار الثقافي – وقف إطلاق النار السياسي
وعقب إسقاط النظام القائم فليتنافس المتنافسون على أيديولوجياتهم ورؤاهم وبرامجهم باعتبار الديمقراطية هي الضامن الأساسي لهذا الحق.
لقد أصبح لزاماً على كل الوطنيين الديمقراطيين العمل على تحرير الديمقراطية من الآفات الاحتكارية والاستبعادية ، واختطافها من قبل نتوء ميليشيوي ثقافي محدود ،وضرورة إطلاق سِراحها من أيدي النخبة المشبعة بالقيم العلمانية، وطرح الديمقراطية في الشارع السياسي العام كملكية مشتركة للجميع والإلقاء بها في قلب المجتمع؛ حتى تتوفر الفرصة الكافية لاختبارها على أرض الواقع فَتُبْقي ما ينفع وتعدل ما تراه ، وتطرح ما لا يفيد ، وهذا ما يقتضي تغليب الخبرة العملية والحيَّة على الأيديولوجيا الهامدة ، وفك العلاقة التلازمية المزعومة بين العلمانية والديمقراطية ، والتأكيد على طابعها الإجرائي – الائتلافي لمجتمع تعددي كالمجتمع السوري .
إن من الضروري تفاعل الآليات الديمقراطية مع مخزوننا الحضاري العربي الإسلامي لنأخذ منها ما يناسب حاجاتنا وأولوياتنا (دعونا : نبدأ – ندخل – نجرب – نمارس – نعدل – نصيب – نخطئ – نأخذ – نعطي – الأنا – الآخر….. ) دون قيود واشتراطات علموية مسبقة .
إن الحداثة حداثات ، والديمقراطية ديمقراطيات : هكذا تخبرنا التجارب السياسية للشعوب التي انتقلت للديمقراطية خلال القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين ، وتُعلمنا الابتعاد عن الصفرية في العمل السياسي : كل شيء أو لا شيء!!.
فمتى نُحرز بعض الشيء؟!