اﻷسد و معارضوه

اغتيال الشهيد مشعل تمو وقبله قتل كل من ابراهيم القاشوش و غياث مطر و التمثيل بجثتيهما يبعث على التساؤل عن مغزى هذه الاغتيالات و عن دوافعها. هل النظام يقتل الناس “للتسلية” أم لمجرد القتل و الترهيب؟ هل هناك “سياسة” ما أو هدف من وراء اقتراف كل هذه الجرائم، و ما هو هذا الهدف؟

منذ نيف و أربعين عاماً و النظام اﻷسدي يستعد ليوم تنكشف فيه ألعوبة الممانعة و الصمود و يطالب فيه الشعب المخدوع و المستلبة حقوقه باسترداد كرامته و بالحرية و العدالة.العائلة اﻷسدية سخّرت الكثير من ٳمكانيات البلاد طيلة هذه السنوات استعداداً لهذا اليوم. لعل هذا ما يفسر أن النظام احتفظ بمعارضين “وطنيين” ولم يسفك دماءهم جميعاً، كما كان متوقعاً من نظام قمعي مطلق، وهذا ما فعله صدام في العراق الذي صفى معارضيه قبل حتى أن يعارضوه. في “ساعة الحشرة” يخرج النظام من جلبابه معارضين محترمين كان النظام قد “دجّنهم” و عرف مواطن ضعفهم وحتى عناوين عائلاتهم ويعرف كيف يتخلص منهم ٳن هم حادوا عن “صراطه المستقيم”. هذا التفسير لا ينتقص من قدر، و لا من وطنية هؤلاء المعارضين، الصادقين في معارضتهم وفي وطنيتهم بأغلبيتهم الساحقة، لكنه قد يلقي الضوء على مخططات و طريقة عمل النظام اﻷسدي.

بالنتيجة، كل معارض سيجد نفسه، في ساعة الحشرة تلك، مضطرا للاختيار بين اتّباع الدور الذي رسمه له النظام سلفاً بدون أدنى تحوير، و بين مواجهة المصير المحتوم لكل معارض في نظام قمعي قاتل. بالنسبة للأسد، لحظة الحقيقة قد أزفت و الكل مدعو للالتحاق “بفسطاطه” على سنة “بوش الصغير” و الراحل “بن لادن”. شرط الانضمام لفسطاط اﻷسد هو القبول، ولو ضمناً، بأسطورتي العصابات المسلحة و المؤامرة الخارجية و تصديق أن النظام قابل للٳصلاح، مرورأ بتفهم ضرورة الاستعانة بالجيش “الوطني” لضبط اﻷمور و تهدئة المغرر بهم.

من لا يلتحق بفسطاط اﻷسد هذا يحكم على نفسه بالهلاك و بالطرد من “جنة” البعث، لهذا توارى أغلب المعارضين عن اﻷنظار انتظارا” لغد أفضل” أو على أمل اللجوء للخارج كريما فليحان و قبلها هيثم المالح.

ابراهيم القاشوش و غياث مطر لم يتم “تدجينهم” سلفاً ولا دراسة نقاط ضعفهم في مراكز أبحاث اﻷسد الاستخباراتية، التي نسيت ٳسرائيل و تفرغت لضمان حكم آل اﻷسد، لهذا لم يضيع النظام وقته في سجنهم ولا في محاولة استمالتهم. بالعكس، أعادهم جثثاً مشوهة لكي يكونوا “عبرة لمن اعتبر”.

كان في وسع النظام دفنهم في ٳحدى مقابره الجماعية، و هي كثر على امتداد السجن السوري الكبير، لكن جهابذة القمع اختاروا توجيه رسائل دموية ٳلى الداخل الثائر و خاصة ٳلى من لم ينكسر لديهم جدار الخوف بعد، وٳلا كيف نفهم ٳعادة جثمان الشهيد ابراهيم القاشوش مذبوحاً و دون حنجرة؟ اللبيب سيفهم أن كل حنجرة ستصدح بغير الدعاء لآل اﻷسد مآلها ٳلى البتر.

أي خطورة كان يمثلها الشهيد غياث مطر، داعية السلمية و هو من أهدى قاتليه الماء و الزهور؟ هل كان يشكل خطراً داهماً على جيش اﻷسد و كتائبه الجرارة بمدافعها و بمدرعّاتها ؟ غياث أعاده “جند اﻷسد” جثة مشوهة و هو أيضاً اقتلعت حنجرته. الرسالة الدموية مؤداها أن كل صوت لا يسبح بحمد اﻷسد مآله الموت، سواء كان مسالما أو مسلحاً.

بنفس الطريقة يمكن تفسير التمثيل بجسد الشهيد حمزة الخطيب، فالنظام و “خبراؤه” يعلمون أن صور اﻷطفال القتلى قد تقدر على تحريك بعض الحس اﻹنساني لدى الضمير العربي و العالمي النائم، وتدعوهما للنظر في ممارسات النظام القمعية. كذلك قد تحرك صور الشهداء من اﻷطفال بعض الحمية لدى القاعدين عن مناصرة الثورة، بدليل أن أكبر مظاهرات دمشق جرت في حي الميدان لدى تشييع الشهيد الطفل “ابراهيم الشيبان”. أي أب سيسمح ﻷطفاله بالخروج من البيت بعدما شاهد ما فعله زبانية اﻷسد بالشهيد حمزة؟

الشهيد مشعل تمو موضوع آخر، فالفقيد لم يكن فقط معارضاً صلباً للنظام بل كان أيضاً أحد أبرز وجوه الحراك الكردي الوطني في سوريا. مشعل تمو كان نموذجاً للمواطن السوري المثالي، كان رجل دولة و مبادئ، من طينة الرجال الذين تحرص عليهم اﻷمم الحية و الشعوب الحرة. مشعل “الكردي” كان متصالحاً مع العروبة و متعايشاً مع الآخر كائنا من كان. مشعل الذي عاش في مناطق موبوءة بالسلاح كان معارضاً سلمياً و كان يؤمن بالتعايش السلمي بين الجميع، عرباً وكرداً وآشوريين، حتى الجار التركي كان يقدر عاليا جهود الشهيد مشعل، الذي كان “واسطة خير” مع حزب العمال الكردستاني الثائر ضد أنقرة.

ربما لهذا السبب بالذات تم اختيار الشهيد مشعل تمو ﻹرسال رسالة تصعيدية ٳلى الجار التركي و ﻹبقاء أنقرة داخل “فسطاط” اﻷسد.

اغتيال مشعل تمو الوطني السوري، الرافض لانفصال اﻷكراد السوريين و الرافض لحمل السلاح ٳن في سوريا أو في تركيا، يقوي، بشكل غير مباشر، موقف اﻷكراد المتطرفين في سوريا و داخل صفوف حزب العمال الكردستاني، و يشجع الانفصاليين و كارهي الآخر من اﻷكراد. كذلك يحرم اغتيال مشعل تمو أنقرة من قناة اتصال ثمينة مع حزب العمال الذي عاود كفاحه المسلح بهدف تحقيق انفصال اﻷكراد عن الدولة التركية.

اغتيال تمو كان المقصود منه،أيضاً، ٳثارة أكراد سوريا، خاصة المعتدلين، و تحريك المناطق الكردية في شمال سوريا، وهو ما حصل فعلاً. النتيجة النهائية هي تسخين المناطق الكردية في شمال سورية لتخويف تركيا من احتمال انفصال أكراد سوريا وانضمامهم، في المحصلة، للدويلة الكردية القائمة بالفعل في شمال العراق وهو ما يشكل كابوسا لحكومة اردوغان. الهدف من هذه المناورة هو ٳقناع اﻷتراك بأن ٳضعاف نظام اﻷسد سيشكل خطراً على تركيا وأن نظام اﻷسد، وحده، هو القادر على ٳطفاء الحرائق التي سبق له وأن أشعلها. هذه كانت، بالضبط، سياسة النظام في بلاد اﻷرز طيلة ثلاثين عاماً. حينها كان اﻷسدان، اﻷول ثم الثاني، يقامران باﻷرض و بالشعب اللبنانيين. اﻷسد الخليفة يمارس نفس اللعبة، لكن هذه المرة داخل حدود الوطن السوري، غير مبالٍ باﻷخطار الداهمة المحيقة بمستقبل البلاد و باستقلالها، المهم أن يبقى هو وعصابته في الحكم، و لو على أطلال بلد مقسم و مستباح.

د. أحمد الشامي

ahmadshami29@yahoo.com

http://www.elaphblog.com/shamblog

Scroll to Top