ترددت كثيراً قبل أن أكتب العنوان أعلاه، بسبب اللحمة الوثيقة بيني وبين أكثرية أصدقائي وأحبتي ممن كنا نحيد عوامل النشأة المذهبية.. فهذا الأمر كان حاضراً بدون شك، بسبب ممارسات السلطة التي كانت تتسم بالطائفية، لكنها بكل تأكيد ما كانت لتعكر علاقتي بعدد كبير من أصدقائي الذين كانوا بمثابة أهل لي وما زالوا، ويبقون وإن قطب بعضهم جبينه.
أصحو اليوم على حلم لم أتخيل أنه سيكون مرفوضاً ممن رافقتهم عمراً، نحن الذين كنا نردد أغاني الحرية، ونقرأ آراء فلاسفتها ونناقشها في الهزيع الأخير من الليل في جلسات دافئة، أصحو غريباً عن أصدقائي وقد نبذوا حلمنا المشترك في لحظة حاسمة، وانحازوا لوهم يبثه النظام حيناً، أو انكفؤوا إلى هوية طائفية مبتسرة بدلاً من هوية إنسانية جامعة حيناً آخر… يدهشني أمر أقربهم وقد مارس أهم مهنة إنسانية طيلة عقدين قضى منها نصفها أو أكثر في مجتمعات أقصت هذه العوامل منذ أمد بعيد، (وتخف دهشتي إذ أتأمل حال طبيب العيون الذي درس في لندن، وعاد ليضطهد شعباً وثق به، ثم بدأ بقتله وأسره وتشريده، إذ ذكره بما كان عليه أن يفعل)، أبحث بينهم عن شخص يجد أن الأمر يستحق الحوار، فلا أظفر إلا على من يتأسف على عمرنا المشترك، أو يتحاشى الاحتكاك بي خجلاً من نكوصه، أو ربما تلافياً لاختلاف يظنه خلافاً. أحاول في رسالتي هذه ان أدعوهم لتأمل الفرصة الكبيرة التي تلوح اليوم من أجل وطن يتسع لجميع أبنائه بحرية وكرامة وأمن واطمئنان، وطن لا يتطلب استقراره تبجح متسلط وصمت مضطهَد.
أحبتي وأخوتي للحظات تأمل بعيدة عن عصبية هوجاء قد تتملكنا، لنفكر معاً عما هو أفضل لسورية، لكل مكوناتها في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخها، لنقرأ الحالة قراءة موضوعية هادئة وغير منحازة، لنفهم مصلحة سورية وشعبها على تنوع ملله ونحله؛ أين تكمن؟ وهل من فئة قد يكون ما يناسبها يخالف ما يناسب الآخرين لنسوغ استئثارها بالسلطة، ونتفهمه من باب اختلاف المصالح، أو حيازتها دون شركاء. اللحظة خطيرة جدا وفارقة، وستكون منعطفاً في تاريخ الكينونة السورية، التي هي في شكلها الراهن كيان جغرافي مستحدث عمره مئة سنة إلا قليلاً، فلا هي بلاد الشام التي نعرف، ولا سورية الطبيعية التي اختلفت فيها الأيديولوجيات.
خلال 40 سنة من تاريخ النظام الراهن في سورية مر بمرحلتين متشابهتين في الكثير متمايزتين في القليل، متشابهتين في التغول الأمني، واستخدام المال والدين والطائفية وأحادية الرأي والإسفاف الإعلامي والحال الشعاراتي الزاعم للممانعة والصمود وما إلى ذلك من مصطلحات باتت تدل على الكذب والتسلط أكثر مما تدل على المعاني المرتبطة بجذورها اللغوية. ومختلفتين في الاستخدام التراتبي لمسائل السلطة، فالأسد الأب كان يستعين بالطائفية لحماية النظام، ويستعين بالفساد من أجل تدعيم النظام بالأزلام، أي كان كل من الطائفية والفساد في خدمة النظام، أما على عهد الابن الذي استلم نظاماً محكماً عجائبياً ليس له مثيل لا في الحاضر ولا في التاريخ، تغيرت الأمور والأولويات، لأن هذه الوارثة تمت في إطار شبه عائلي، وضمن ترتيبات معدة سلفاً، قام بتنفيذها حاشية الأب في غمرة الدهشة التي غمرت معظم السوريين، ومسيرات الحزن الطائفية الغاضبة (ممن لا أدري؟!)… هذه الحالة من التوريث المضطرب الذي لا يستند إلى أي أساس شرعي أو قانوني، مع ما يحف به من إشكالات تتعلق بشخص الأسد الابن الذي هو أعجز من أن يهيمن على النظام بدون أسرته، اختلفت المعادلة وانقلبت رأساً على عقب، الاضطراب الذي قد يطال أي عائلة أمام الميراث السلطوي قد يدمرها، لذلك كان لا بد من مرجعية للعائلة، هذه المرجعية كانت الطائفة، بمعنى أن الطائفة باتت متحكمة بالعائلة التي يتحرك ضمن فضائها الابن، فأضحى لها وزن في السلطة بطريقة غير مباشرة. وأيضا بسبب النفوذ العائلي، دخل أقطاب جدد إلى السلطة من عائلة السلطة، فنمت دائرة الفساد، وباتت السلطة في خدمة الفساد، مما جعله يستشري، إذ أصبح هدفاً في حد ذاته بعد أن كان غاية مقننة.
لاشك أن العلويين كطائفة نابهم من الظلم ما لا يمكن قبوله في مراحل تاريخية، وهم في هذا مثلهم مثل أي طائفة أخرى تعرضت لمظالم تاريخية، الجميع كانوا أسرى صراع مذهبي ديني ثقافي تجلى بصور بشعة بدون شك، وفتح صفحات التاريخ الغابر والمغبر يشير إلى أمر واحد يجب أن نؤمن به جميعاً، وهو أن أي تعسف أو هيمنة تتم من باب فرض الإيمان الخاص على عامة المجتمع هو مدخل للإثم الذي يودي بصاحبه أيضاً وإن بعد حين. لكن مع وصول الأسد الأب إلى السلطة كانت الفرصة مواتية لإظهار وعي (علوي) رفيع، بالترفع عن أي امتياز على محمل طائفي، ورفض أي استخدام سياسي للهوية المذهبية. وهذا ما وجدته بالفعل عند بعضهم أواسط الثمانينات ممن كانوا يصرحون برفضهم ظلم السلطة للناس. وكانوا يجدون في الحالة السياسية مناسبة عظيمة وفرصة فريدة لإرسال رسالة واضحة للمشككين أن هذه الطائفة هي جزء من هذا الشعب ولن تكون سوى ذلك.
للأسف لم يبادر النظام ولا تم نصحه من قبل الشخصيات أو الفئات المؤثرة في الطائفة من استثمار فرصة التقارب، بل تحولت الطائفة إلى أداة قمع، إذا يكفي أن يتحدث المرء بلهجة الجبال الساحلية حتى يبث الرعب في قلوب الناس. ويكفي ذلك يحتاط جيرانه منه، ويؤثرونه على أنفسهم في الخدمات العامة، ويحرصون على راحته وتسهيل أموره اتقاء لما قد ينوبهم من طرفه من شرور.
خلال أربعين سنة والسلطة تسيء للطائفة، وتستخدمها استخداما براجماتياً خسيساً، بوضعها في الواجهة بشكل غير مباشر، وأحياناً بشكل مباشر ولكن بدون تصريح، وهذا الاستخدام الخسيس يصل إلى درجة أكثر بشاعة من خلال محاولة إثارة الفتنة الطائفية عندما يهتز النظام، الطائفية التي بدون شك لن يخرج منها رابح، لكنه يستخدمها كورقة ضغط من جهة، ومن جهة ثانية لكسب تعاطف طائفي يتيح له كسب جنود متطوعين. ومع ثقتنا بوعي الشعب السوري، إلا أن الأمر مخيف في ظل العديد من المؤشرات التي سادت خلال الفترة السابقة، والتي دلت على أن النزوع الطائفي موجود وإن كان بدرجة هامشية يتم تضخيمها من خلال السلطة السورية وأبواقها وإعلامها.
ولنكن واقعيين فإن ما يستأثر به أبناء الطائفة من مكاسب أو ميزات هي حق لهم كمواطنين، لكن النظام يخصهم بها ويحرم منها سواهم، بل إنه يحرمهم هم أنفسهم ويجود عليهم بفتات منها.
اليوم يقتل الناس بيد نظام آثم فاسد جائر، دمر البلاد وانحدر بها في شتى مجالات الحياة المعاصرة، فأصبحت في ذيل القوائم التي تتحدث عن أرقام التنمية والتقدم، بعد أن كانت واعدة وتبشر بتسنمها وتصدرها… وها هو يرهن مصير طائفة بأكملها لها وزنها في المشهد السوري الراهن وفي التاريخ السوري أيضا وفي المستقبل المنشود، يرهنه لنزعاته التسلطية، ويحاول أن يصادمها مع الآخرين ليبقى متحكما بالوطن والمواطنين لعهد آخر… لذلك ينبغي لنا أن ندرك أن هذا النظام لن ينجح في البقاء مهما حاول، ولكنه سيحاول أن يطيل أمده وأن يسفك المزيد من الدماء، وأن يغامر بمستقبل الوطن السوري من أجل البقاء في السلطة، وهذه الإمكانية ما يجب علينا كسوريين على اختلاف مللنا ونحلنا أن نحرمه منها، وأن ننحاز جميعا للوطن، ننحاز للأخوة والعدالة والعيش المشترك لنضمن لأولادنا حياة مستقرة مرفهة آمنة، لذلك أتمنى على أخوتنا في الوطن أن يهبوا مع أخوتهم في وجه هذا النظام الذي لا ينكر بشاعته وبطشه إلا كل من طلق الإنسانية وتخلى عن كل وازع أخلاقي أو إنساني.
إن المسارعة اليوم إلى اتخاذ قرار حاسم في الوقوف بجانب الشعب المنتفض من أجل الحرية والكرامة يحقق أهدافاً وفوائد كثيرة جديرة بالاهتمام والسعي نحوها، بل جديرة ببذل الغالي والرخيص من أجلها..
الفائدة الأولى: تتمثل في شل النظام ودعوته للتفكير جدياً في انتهاء عهده، بدلاً من المكابرة ومحاولة البقاء بوسائل شتى مهما كانت وحشية. يقوم النظام بنفسه تفكيك نفسه وتمرير السلطة بشكل سلمي إلى سلطة مؤقتة تضع الأسس المطلوبة لمستقبل سوري منشود، عندما يرى أن من يراهن عليهم في أن يكونوا أدواته لقتل الوطن، هم الذين يصدونه عن فعل ذلك.
الفائدة الثانية: تتمثل في حقن دماء الشعب السوري، فانتفاض أخوتنا في الوطن يعني أن يبقى الصراع بين الشعب بأكمله من جهة والسلطة الغاشمة من جهة ثانية، حينها لن يكون بمقدار النظام أن يمارس القتل كما يشاء، لنقص في العدة مهما وجد العتاد، وللخوف الذي سيسيطر عليه وهو يواجه المجتمع بأكمله، وهكذا تحقن الدماء ويلتحق حتى المترددون بركب الثوار، ولن يدخر من يدعم النظام وقتا ً وسيكف لفوره وينكص على عقبيه ويحاول الاقتراب من الثوار.
الفائدة الثالثة: تتمثل في الترابط العضوي بين مكونات الوطن السوري، فالنضال المشترك يشكل قاعدة صلبة للأخوة والمشاركة، ويفتح الصلات على أوسع مجال، وينشئ مفهوم الانتماء إلى الوطن والتحلي بالمواطنة الشريفة والمتساوية. وهذا النضال المشترك يجب ما قبله، فتشيع روح التسامح التي نرغب أن تكون، ونضطلع جميعاً ببناء الغد بدلاً من الانشغال بإحن الماضي.
الفائدة الرابعة: تتمثل في المحافظة على البنية التحتية وعدم إتاحة الفرصة أمام النظام لحرق الوطن أو تدميره، بحسب المبدأ الذي كان ظاهراً منذ بداية التظاهرات، إذ أعلنتها السلطة مراراً وبصيغ متعددة مواربة ومباشرة: إما أن ترضوا بنا أو يكون الخراب!! مراهناً على دعم طائفي يحيل المجتمع إلى صراع طائفي يضعفه ويجعله في متناول الفروع الأمنية من جديد، وعلى دعم دولي يوفره الكيان الإسرائيلي الحريص على بقاء نظام الممانعة المزيفة.
الفائدة الخامسة: تتمثل في ضمان مستقبل تعددي يساهم فيه الجميع على قدم المساواة، فالانضمام إلى الأخوة في الوطن يعني مشاركتهم في الجهود الحثيثة التي تعتزم أن تحقق وضعا سورياً حضارياً تنموياً مميزا، من خلال المشاركة والرفد بالخبرات، والتعاضد، ومن خلال المرجعية المشتركة في وضع الدستور وهيكل الحكم والأحوال الشخصية والقوانين القضائية وسبل التعبير والممارسة السياسية الفاعلة وما إلى ذلك.
الفائدة السادسة: تأسيس وضع اجتماعي وثقافة عصرية تقوم بداية بعزل العوامل العصبية والمذهبية عن إدارة دفة السياسة، لتكون السياسة متفرغة لبناء الإنسان السوري الجديد، المتمتع بالكرامة والحرية والطموح الحضاري، مما يمهد لظهور دولة نموذج ستكون نموذجا يحتذى من قبل كل الدول المحيطة والكيانات السياسية المضطربة. فتعاضد الشعب باختلاف مكوناته يمهد لخطاب ذي مرجعية إنسانية تطغى على أي مرجعية خاصة.
الظرف دقيق، واللحظة حاسمة، وما قد يطول أمده، وترتفع أعداد ضحاياه، وينذر بعهد طويل من الخراب بالإمكان تلافيه عبر تفكير استراتيجي يحتسب للغد القريب والبعيد، وممارسة تكتيكية راهنة تتمثل في الخروج على النظام من قبل من يغامر بمستقبلهم المشترك مع أخوتهم في الوطن… فمظاهرة حاشدة في قرى الساحل السوري، أو في دوار الزراعة في اللاذقية أو السومرية أو المزة 86 في دمشق، أو مساكن الضباط في درعا، أو الأحياء التي تقطنها غالبية علوية في بقية المدن السورية، سيكون لها شأنها الكبير والتاريخي، وستمثل لحظة مقتل هذا النظام الفاسد والجائر، وبداية الوطن السوري الحضاري وميلاد أمة جديدة، إنها لحظة الاختيار بين نحيا في سورية الوطن العظيم، وبين الإصرار على التمسك والاستمتاع ببؤس المزرعة الأسدية.