لقد نجحت الثورات العربية في تونس ومصر بالإطاحة برموز الأنظمة البائدة، وهي تحاول الآن الإطاحة بفلول تلك الأنظمة وتعمل على منع محاولة إعادة إنتاجها على النمط القديم ضمن ديكور شكلي جديد، وهذا الأمر مع أنه ضروري لأجل إتمام نجاح الثورات في إسقاط الأنظمة، إلا أنه ليس بالضرورة أن يحدث تغييراً إيجابياً نحو الأفضل، لأنه ثمة أمر آخر أكثر أهمية وله علاقة قوية بحصول التغيير الحقيقي في الواقع الجديد، ألا وهو تغيير ما بالأنفس. فحتى لو سقط النظام القديم بأكمله، فإن النظام الجديد سيكون شبيها بالقديم بقدر نسبة الإخفاق في تحقيق تغيير ما بالأنفس، وأفضل منه أيضا بقدر نسبة تحقيق التغيير الأيجابي لما في الأنفس.
كثير من المحللين يعتقدون بأن الشعوب الثائرة لكي تكسب الجولة في تحقيق المصالح ودرء المفاسد وإحداث التغيير الإيجابي والخلاص من الفساد والظلم، عليها ليس فقط مجرد القيام بالثورة لتغيير الأنظمة، بل يجب عليها أن تغير ما بأنفسها. والحقيقة أنه قد تنجح ثورة ما في وقت ما في إسقاط نظام بشكل كامل، لكنها سوف لن تنجح ببناء واقع جديد ونظام جديد أفضل إلا بأن يغير الشعب أيضا ما بنفسه ويصلح أعماله ويغير مفاهيمه، والحديث عن هذه السنة الكونية في التغيير هو من أوجب الواجبات كونها أسّ الأساس في التغيير، ولكي لا تذهب الجهود وتتبعثر هنا وهنالك بلا تحقيق للمصالح والأهداف المرجوة.
((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد:11] هي آية كريمة واضحة المعنى والدلالة، وموجزة في ألفاظها. إنها سنةٌ من سنن الله سبحانه في خلقه. إنها السنة الاجتماعية الرئيسة التي تسيّر المجتمعات الإنسانية وتوجهها منذ أن شاء الله سبحانه إلى أن يشاء سبحانه.
إن مما تبينه هذه الآية أن واقع أي مجتمع إنساني هو تابع أو موجَّه، أو هو محصِّلة لما في نفوس مجموع أفراد هذا المجتمع أو غالبه. فإن كانت محصلة ما في نفوس أفراد هذا المجتمع سيئةً يكون واقعه سيئاً، وتكون المحصلة سيئة، وعكس المعادلة صحيح، أي إن كان واقع هذا المجتمع جيدا فهذا يعني أن ما في نفوس أفراده، أو غالبه جيد.
ولا تحتاج معرفة أمراض مجتمعاتنا العربية إلى عبقرية، لأنها واضحة فاضحة، يأتي في مقدمتها وما حول مقدمتها غياب الصدق والأمانة. والصدق والأمانة قبل الإيمان، فالله سبحانه عندما أراد أن يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم هيأ له مجتمع الصدق والأمانة وبعثه فيه.
وللدلالة على أن مجتمع قريش كان مجتمع الصدق والأمانة، يكفينا هنا مثالين مشهورين:
1 ـ حلف الفضول الذي تعاقدوا فيه وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: “لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أُحب أن لي به حمر النَّعم ولو أُدْعى به في الإسلام لأجبت”، وهذا من الصدق و الأمانة.
2 ـ موقف أبي سفيان عند هرقل عندما سأله هرقل أسئلة عن محمد صلى الله عليه وسلم فجال في خاطر أبي سفيان أن يكذب عليه في بعضها، لكنه خاف من الرهط القرشيين الذين كانوا حاضرين معه أن يفضحوه في قريش وبين العرب حيث سوف يلقبونه بالكذاب ولو كانت الكذبة ضد عدوٍّ لهم، وتدل الحادثة على وجود الصدق و الأمانة في الجاهلية.
وهذا لا يعني عدم وجود استثناءات، ففي المجتمعات الإنسانية لا يوجد مجتمع يتصف كل أفراده بكل صفات الخير، بل يوجد دائماً مع الخير شر، كما لا يوجد مجتمع يتصف كل أفراده بكل صفات الشر، بل يوجد دائماً مع الشر خير، وإنما العبرة للغالب من الصفات، فلننتبه.
ولنترك أسلوب “الطبطبة” ومن أسلوب تفاؤل الحالمين وتبريراتهم، فهذا لا يفيد شيئاً في إنقاذ الأمة من وهدتها، لكن المفيد إنما هو الأسلوب القرآني، أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأمر بالمعروف بالمعروف بعد معرفة المعروف معرفة صحيحة أكيدة تامة، والنهي عن المنكر بالمعروف وبعد معرفة المنكر معرفة صحيحة أكيدة تامة.
دعونا من تبريرات الحالمين ولنواجه الحقيقة المرة. لقد انتشر الفساد في مجتمعاتنا وطغى إلا ما رحم ربي، لذلك لا أمل لنا بأي نصر أو نهوض من الكبوة إلا بزوال الفساد، أو على الأقل بانحساره في زاوية مهملة. عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: “.. قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث” البخاري ومسلم (كتاب الفتن). لقد كثر الخبث، بل أصبح أكثر من كثير بكثير.
يقول سبحانه: ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ..)) [آل عمران:110]. يقول سبحانه: (( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [78] كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )) [المائدة:78ـ 79].
وفي تفسير هذه الآية يقول ابن كثير: قال ابن أبي حاتم حدثنا… عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد المسيء ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم” (وقد رواه أبو داود أيضاً).
في الختام دعونا نتذكر أن أول خطوة في الثورة السورية لم تحصل إلا بعد إزالة الخوف من النفوس، وأن بقية الأمور الواجب تغييرها سوف تبدأ أيضا بتغيير داخلي أولا، فمثلا القضاء على الفساد والرشوة لا ينجح إلا بانتشار الصدق والأمانة. والازدهار الاقتصادي والرخاء لا ينجح إلا بالإخلاص والتفاني بالجد والعمل بصدق. والعدل لا يتحقق إلا بقيام كل راعٍ بمسؤليته، “وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”. وهذا التغيير يجب في كل جانب آخر من حياتنا اليومية، ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )).