لعل التفسير التأصيلي المنهجي «البَعْدي» للأحداث: أعمق مضمونا، وأبلغ عبرة، وأوفى نفعا من التفسير «المصاحب» لها، ذلك أن الأخير لا يخلو من تعجل وانفعال، بينما الأول أقرب إلى التروي وصفاء العقلانية.. ولنأخذ الانتفاضات أو الثورات العربية التي ماج بها الوطن العربي في الشهور الأخيرة، لنأخذ ذلك نموذجا حيث زخرت هذه الأحداث بظواهر عديدة خليقة بالتفسير والتأصيل المنهجي..
أما الظاهرة التي هي محور هذا المقال فهي «الانتفاض الجماهيري على أنظمة جمهورية». نعم فالأنظمة السياسية التي ثار عليها الناس إنما هي أنظمة جمهورية بلا استثناء: في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.
والحقيقة الأولى المستنبطة من هذه الظاهرة هي: أن النظم الجمهورية «تفسد» أيضا وتستبد: بصورة تستدعي انتفاض الناس عليها، على حين أن الجمهوريات قامت – في الأصل – كبديل للأنظمة الملكية التي لم تعد الجماهير، ولا العصور تتقبلها (كما قيل في تسويغ مجيء الأنظمة الجمهورية).. ومن الطرح الموضوعي الواجب: إعادة تصوير الظروف الاجتماعية والفكرية والسياسية التي نودي فيها بتطبيق «فكرة الجمهورية»، على أن هذا التصوير ينبغي أن يبدأ بتعريف كلمة «جمهورية»، فهي كلمة منسوبة إلى «الجمهور» يقال: جمهور: حشد من الأفراد اجتمعوا على أمر من غير ترتيب سابق، أو هم عامة الناس من حيث تباينهم عن الصفوة المستنيرة.. ومن المراجع ما عرّف الجماهير بأنها هي «التي تلتقي عرضا على شيء ما، ولكن أفرادها مختلفون نفسيا وفكريا».. ومن التعريفات أيضا: «الجمهورية هي دولة يكون الحكم فيها جمهوريا».. وفي العصر الحديث (أواخر القرن الثامن عشر) قيل: إن الجمهورية كانت مطلبا للناس في فرنسا، بيد أن المؤرخ الكبير المحقق هربرت فيشر رفض – في كتابه العظيم: «تاريخ أوروبا في العصر الحديث» – رفض دعوى: أن الجمهورية كانت مطلبا للشعب الفرنسي. يقول فيشر: «لم يكن ذهن فرنسا – كما تظهر الوثائق – يجنح إلى الجمهورية، بل كان يطالب فقط بأن الضرائب يجب ألا تفرض من غير موافقة الشعب، وأن تلغى ضريبة البيوت والعقار الثابتة، وهما أمنيتان أجمع الناس عليهما.. ولما كانت فكرة الجمهورية قد اقترنت على الدوام في أذهان الفرنسيين بالحرب والثورة، فإن الأكثرية الكبرى منهم كانت تنخلع قلوبهم من أي دستور يحمل هذا الاسم. ولذا فإنه في الانتخابات التي جرت في 8 فبراير (شباط) 1871 للجمعية التأسيسية: انتخب أربعمائة عضو ممن يناصرون إعادة الملكية من الستمائة والخمسين عضوا الذين تألفت منهم تلك الجمعية، بيد أنه لم تبرز في النهاية حكومة ملكية، بل قامت جمهورية من هذه الجمعية الشديدة الميل إلى النظام الملكي والتي كانت تمثل البلاد تمثيلا حسنا».. لماذا رجحت كفة 250 عضوا (مع الجمهورية) على 400 عضو (مع النظام الملكي)؟.. يعلل فيشر هذه المفارقات فيقول: «السبب هو الانشقاقات الخطيرة التي دبت بين البيوتات المالكة، وبالذات بين بَيْتَي: بوربان وأورليان في الجمعية التأسيسية ذاتها»..
وإذا كانت أدبيات سياسية مستفيضة قد بشّرت بأن «النظام الجمهوري» سينهي معاناة البشرية، ويدخل الناس في عصور تتسم بالحرية والمساواة والعدالة والأمن والاستقرار والرفاه، فإن الوقائع العملية لا تؤيد – في الجملة – هذه البشرى، ذلك أن النظام الجمهوري هو نفسه أصبح أداة لشقاء الكثيرين من البشر. فعلى سبيل المثال: عانت شعوب كثيرة من «نابليون» المتحمس لدرجة الغلو للنظام الجمهوري، وهو – كما وصفه المؤرخ ويلز – : «مجرد مغامر مدمر ألحق الضرر بأوروبا والحضارة الإنسانية».. وعانت البشرية من هتلر الجمهوري ومن طغيانه وعدوانيته وحروبه.. وعانت من لينين وستالين: مؤسسي جمهوريات الاتحاد السوفياتي وزعمائها.. وعانت من فرانكو الديكتاتور الإسباني الرهيب (وإن كان الرجل قد ختم حياته بإعادة الملكية إلى إسبانيا وهي عودة ابتهج لها الإسبان).. وهذه الأمثال الأربعة كافية لحفز الذهن على استدعاء نماذج أخرى سيئة من الحكم الجمهوري، في عصرنا وعالمنا.. ولكي لا يكون الكلام تنظيرا بعيدا عن الواقع الذي يكتنف الأمة العربية في هذه الظروف: نربط الكلام بالواقع الماثل فنقول: إن أنظمة جمهورية عديدة في الوطن العربي قد رفضها «الجمهور» الذي تنتمي إليه – في أصل المفهوم – وأسباب هذا الرفض تكاد تكون مشتركة وهي: الاستبداد والفساد الغليظ بكل أنواعه: السياسي والإداري والمالي والأمني.. و«التوريث»: أن يرث الأبناء الآباء في «رئاسة الجمهورية»!.
ما معنى ذلك كله؟.. وما المقصود – بالضبط -؟
هل المقصود «تثوير» الناس على الأنظمة الجمهورية؟.
لا.. طبعا ليس هذا هو المقصود:
أولا: لأننا مقتنعون بـ «تنوع» الأنظمة السياسية على هذا الكوكب.
ثانيا: لأن هذا التنوع مشروع في منهجنا، ففي القرآن: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة».. واختلاف الشرائع والمناهج يثوي فيه اختلاف الأنظمة السياسية بداهة.
ثالثا: لأن تنوع الأنظمة السياسية يحقق مبدأ «حق الاختيار» للنظام السياسي، وهو حق لا ينقض.
أم.. هل المقصود بالسياق الآنف: الحكم على كل نظام جمهوري بالاستبداد والفساد؟
لا.. ليس هذا المقصود. فمن العدل والعقل أن يقال: إن هناك أنظمة جمهورية جيدة.. ثم إن «التعميم» منزع تنقصه الدقة والأمانة والموضوعية والنزاهة.
إنما المقصود – تحديدا – :
1 – تحرير العقول والأذهان من «الغلو» في تمجيد النظام الجمهوري بحسبانه الحل الأعظم والوحيد للأزمات السياسية والاجتماعية والفكرية كافة، وإلا فهناك أنظمة جمهورية ارتضتها الشعوب واستمرت في تأييدها بسبب أنها حققت لها مقادير محترمة من الحياة الكريمة: المادية والمعنوية.
2 – تركيز الوعي السياسي والاجتماعي على: أن الأمر الأهم والأجدى والأروع في أنظمة الحكم هو «المضمون» و«المحتوى»: وليس الاسم ولا الشكل.
نقلا عن الشرق الأوسط