لا شك بأن كثيرين لديهم علم بأن فهم السياسة والواقع السياسي فيها الكثير من التضليل المقصود وغير المقصود، وذلك بهدف تسخير الشعوب والاستمرار في استعبادها، ومن أبرز الأمثلة التي افتضحت مؤخرا هي أسطورة النظام السوري المقاوم والممانع، وقد أدى استمرار رواج هذه الأكذوبة إلى تأخير نهضة الشعب السوري لعقود طويلة تحت نير الاستعباد والقهر الدموي، وهناك كثير من التضليلات والأساطير السياسية نحتاج إلى كشف حقيقتها كي يتسنى لنا كشعوب أن نتحرر تماما ونكون قادرين على الاحتفاظ بحريتنا دون أن يتسلط علينا استعباد جديد كما حصل بعد تحررنا في السابق من الاستعمار الغربي. وهناك عدة ظواهر سلبية في مجتمعاتنا تعرقل وصولنا إلى مستوى من الوعي الكافي فما هي هذه الظواهر؟
من أهم هذه الظواهر هي أننا لا نكتشف زيف الأكاذيب إلا في حالات البؤس الشديد ثم بعد ذلك نعود لنسيانها حالما تزول شدة البؤس، فلماذا إلى الآن لم يكتشف غالبية الشعوب العربية زيف أسطورة المقاومة؟ ولماذا مثلا لم ينتشر الوعي بالخطر الإيراني إلا بعد قتلهم عشرات الآلاف من الشعب العراقي الشقيق بواسطة ميليشيات الصدر؟ ولماذا الآن بالذات قام المتظاهرون في سوريا بحرق العلمين الروسي والإيراني بينما كانوا في السابق ينظرون فقط للغرب على أنهم العدو الأكبر بدلا من روسيا والصين؟ والغرب فعلا عدو لجميع الشعوب، لكن أيضا روسيا والصين ورثة الاتحاد السوفياتي والشيوعية هم أشد عداء للشعوب بمراحل، فملفات حقوق الإنسان يندى لها الجبين في ماضيهم الشيوعي وأيضا في حاضرهم الحالي.
ولكن ما هو سبب هذه الظاهرة؟ أعتقد أن الأسباب كثيرة ومتشعبة وقد يختلف البعض في تشخيصها، ولكن يمكن دائما الحديث حول أهما:
1- العاطفية المفرطة والانجرار وراء المواقف البطولية دون معرفة حقيقتها: مثل مواقف حزب الله والتصريحات اللفظية الإيرانية المجردة من التطبيق التي تهدد إسرائيل بمحوها من الوجود، ومثل موقف أردوغان في أسطول الحرية الذي جعلنا نظن أنه خير منجد لأمتنا في أوقات الشدة، بينما هو في الواقع رجل سياسي لا يمكنه التصرف دون أخذ الاعتبار للمصالح والتوازنات الدولية.
2- الوقوع في نفس الجحر أكثر من مرتين: هذا النظام المجرم في سوريا ليس أول نظام يخدع الشعب السوري ويسرق منه حريته وحقوقه بحجة المقاومة والصمود، بل هناك أيضا في فترة الوحدة مع مصر في ظل الحكم الناصري الاشتراكي الدعوم من الاتحاد السوفياتي، الذي منع الحريات وحل الأحزاب ومنع الديمقراطية وحرية الكلمة والتعبير وحاول نهب خيرات البلاد وانتشر في عهده الفساد، وكان نموذجا مصغرا لما عليه الوضع الأمني القاتل في نظام البعث الأسدي، وكانت كل هذه أسباب وجيهة لحصول الانفصال، فلماذا لم نأخذ العبرة ولماذا وقعنا في الجحر نفسه مرة أخرى.
3- قلة القراءة والاطلاع والاعتبار بدروس التاريخ: إضافة إلى ما ذكرت في النقطة السابقة فهناك الكثير من النماذج من تاريخنا وتاريخ الدول الأخرى على نفس الأمثلة من الخداع والقهر، وإن عدم قراءة التاريخ والاعتبار به من أكبر أسباب ما يسمى بمقولة “التاريخ يعيد نفسه” فلأننا لا نعرف التاريخ فإننا نسمح له بأن يعيد نفسه، والمثل يقول “السعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه”، فما بالك إذا كنا لا نتعظ بغيرنا ولا حتى بأنفسنا كما في النقطة السابقة.
وأخيرا هذه ليست أول ثورة شعبية في التاريخ تحصل ضد نظام شديد القمع وشديد الخطورة ومرتبط بالإرث الروسي والسوفياتي الشيوعي، فهناك على مقربة منا الثورة الليبية ضد نظام القذافي الذي له نفس الارتباط ودافعت عنه روسيا والصين، وهناك سابقا الثورتين في البوسنة وفي كوسوفو ضد الصرب ذوي نفس الارتباط القمعي الإجرامي مع روسيا، ولدينا عبرة كبيرة في الثورتين، ففي ثورة البوسنة أصر الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش على أن الشعب قادر لوحده على التحرر بدون مساعدة أحد فكان أن حلت به مجازر بمئات الألوف من قبل الصرب بدعم من روسيا. أما في كوسوفو فقد أخذوا العبرة وقرر قائدهم أبراهيم روغوفا تنظيم تظاهرات أمام السفارات الأجنبية في عاصمتهم لطلب تدخل حلف الناتو لإنقاذهم من مجازر الصرب، وكان على دراية جيدة بأن تأثير الرأي الشعبي الغربي قوي على أنظمتهم، وفنشروا صورا للمجازر البشعة، وقرر حلف الناتو شن حرب على الجيش الصربي وألحق به هزيمة أخرجته من كوسوفو وأدت أيضا لسقوط ميلازوفينش في صربيا.
لكن القضية ليست مرتبطة فقط بهذا الحل في سوريا، فقد يختلف السيناريو في الأسابيع المقبلة كأن يحدث انقلاب عسكري أو انشقاق على مستوى كبير وكافي لإنهاء المشكلة أو أن يطرأ حل آخر، لكن في كافة الأحوال إذا ما ظهرت دلائل بأن الأمور ذاهبة إلى مزيد من الدماء وانسداد في أفق الحلول، فلا شك أنه يجب اختيار النموذج الليبي والكوسوفي الذي هو بلا أدنى شك أقل شرا وخطر وسوءا من النموذج البوسني المروّع الذي يجب الحرص وكل الحرص على عدم الوقوع فيه، وعدم تكرار خطأ الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش.