من خلال اطلاعي على الموضوعات المتعلقة بفقه التغيير فقد رصدت العديد من الشبهات التي استدل بها فريق من الناس على أن طريق التغيير لا يكون إلا من خلال التركيز على تغيير الولاة الظلمة أو الأنظمة القائمة على الحكم بغير ما انزل الله، وقد بلغت ثماني شبهات، وهي:
الشبهة الأولى: تقول بضرورة معالجة شرك الحاكمية – شرك القصور – هذا الزمان أولا وجعله على أول سلم الأولويات في العمل لأجل التغيير.
مناقشة هذه الرؤية من السيرة النبوية:
1- هل الشرك يقتصر على شرك القصور “الحاكمية”، أم أن شرك الحاكمية أنواع عديدة؟ جواب ذلك: الشرك غير مقتصر على شرك القصور “الحاكمية”، وشرك الحاكمية أنواع عديدة، فهناك قطاعات كبيرة من المسلمين أفراداً وجماعات غارقة في كثير من أصناف الشرك مثل، شرك الربوبية، شرك الألوهية، شرك الأسماء والصفات، الشرك اللفظي، والشرك العملي، وشرك في الولاء والبراء … الخ.
2- حين بدأ الرسول – صلى الله عليه وسلّم- دعوته، بدأ ببناء المجتمع المسلم من خلال تربية الأفراد والأسر المسلمة، وأول ما بدأ به هو محاربة أصناف الشرك المتمثلة في التصورات الخاطئة عن الله تعالى وأسمائه وصفاته، وكل ما يتفرع عن لا إله إلا الله من عقائد، وغرس فيهم كذلك أن الحكم لله تعالى مرحلة أولى ضرورية تسبق استلام زمام الأمور لتحكيم شرع الله على العباد وإقامة الحدود والسياسات الشرعية المتعلقة بالمجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية. لذا كان نزول قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد:19]، كان متقدماً في العهد المكي. هذا في الجانب العقدي، أما في الجانب الشعائري فقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلّم، ذلك في الأفراد جميعاً – سوى النفاق – في مرحلة سبقت مرحلة استلام الحكم، بحيث لا نجد فيهم رجلاً يتخلف عن صلاة الفجر والعشاء جماعة إلا رجلاً معلوم النفاق!! وأما الأخلاق والتربية والتزكية، فكان لها كذلك الحظ والنصيب الوافر، ومما ركز الشرع على محاربته: صفات المنافقين من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد.
3- لوضع النقاط على الحروف يقصد صاحب هذه الأفكار بشرك القصور شرك الدساتير والأنظمة، لا شرك الحاكمية بعمومه، لأن شرك الحاكمية له تعلق بكل أصناف الشرك السابقة الذكر، فمن اعتقد أن فلاناً يعلم الغيب فقد وقع في شرك الحاكمية من جهة انه ترك حكم الله تعالى أنه لا يعلم الغيب إلا الله، ومن دعا غير الله فقد أشرك في الحاكمية، من جهة أنه عارض حكم الله تعالى في سلب إجابة الدعاء عن المدعو غير الله، ومن عطل ونفى صفات الله تعالى فقد أشرك في حاكمية الله تعالى من جهة انه خالف حكم الله تعالى في أن له أسماء وصفات (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180]، وغير ذلك. وكذا من استغاث بغير الله فقد أشرك في حكم الله تعالى في ربوبيته، لأنه عارض حكم الله تعالى في سلب النفع والضر عن غير الله تعالى إلا فيما يقدر عليه المخلوق، وكذلك الحال فيمن عطل حكم الله تعالى فيما بيّنه وفصّله من حدود شرعية فقد أشرك في حاكمية الله تعالى لأنه عارض حكم الله تعالى في ذلك. إذن يوجد قسمان لشرك الحاكمية:
الأول : بين العباد جميعاً، رعاة ورعية من جهة، وبين الله تعالى من جهة ثانية.
والثاني: شرك يتعلق فيما بين العباد أنفسهم كالأحكام والتشريعات التي سنّتها الأنظمة لضبط العلاقة القائمة فيما بينهم، خالفت بذلك ما ثبت من تشريعات إلهية مخالفة صريحة، أدت إلى تعطيلها، عدا كثيراً من القوانين الوضعية التي وضعت دون مخالفة ولا تعطيل لنصوص الشرع، وخاصة فيما يتعلق بالمصالح المرسلة والأمور الحادثة التكنولوجية.
إذن فلندقق النظر في سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلّم – لننظر، ضد أي من الشركين بدأ المعركة؟ فهل بدأ محاربة الشرك الثاني المتعلق بالجنايات وأحكامها “الحدود”؟ علماً أن هذه الأحكام مبسوطة في كتب الفقه لا العقيدة، عدا ما هو متعلق بالسياسـة الشرعية.
هذا من جانب، ومن جانب آخر أتساءل – عاكساً الأمر – بأي التوحيدين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلّم دعوته؟ هل بدأ بإقامة التوحيد الأول أم التوحيد الثاني؟.
لا شك أخي الكريم أن كل مسلم يعلم يقيناً لا ظناً أن هدي الرسول – صلى الله عليه وسلّم- في ذلك واضح جليّ لا لبس فيه، أنه من الناحية الأولى، أقام التوحيد فيما يضبط العلاقة بين العباد وخالقهم. ومن ناحية ثانية، لابد أن يتأخر تفعيل وإقامة التوحيد الثاني لحين استلام الحكم لتعلقه المباشر فيما بين العباد، الذي يحتاج إلى حاكم وخليفة يقيم ذلك فيهم يرضون بحكمه وقضائه، وخاصة أن معظم مفردات هذا التوحيد الثاني هي من أبواب الفقه (حد السرقة، حد الخمر، القذف والزنا، والتعازير).
إذن مما سبق ثبت أن محاربة شرك القبور على حد تعبيرهم – الشرك الأول كما مر معك سابقاً – يسبق محاربة الشرك الثاني “شرك القصور”.
وجدير بالملاحظة، أن تحقيق القضاء على شرك القصور، إنما هو نتيجة طبيعية حتمية تكون بعد تحقيق محاربة الشرك الأول والقضاء عليه، ولا يحتاج بعد ذلك إلى هذه الجهود الذهنية والعملية المبالغ فيها التي صرفت الناس والدعاة عن الواجب الأول، وبعثرت الجهود وشتتتها، تلك التي كانت ستصب حتماً لصالح الاتجاه الأول، فأطالت بذلك أمد الصراع مع شرك القصور من جهة، وأخرت حسم الموقف مع الشرك الأول – القبور كما يزعمون – من جهة أخرى.
ومن الأدلة على ضرورة هذا الترتيب في بناء أو إعادة بناء الأمة من جديد قول الرسول – صلى الله عليه وسلّم -: “لَتنقضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة فكلما انتقضت عُروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهنَّ نقضاً الحُكم وآخرهنَّ الصلاة“([1]).
فإذا أردنا إعادة بناء عرى الإسلام إلى ما كانت عليه، لابد من البدء ببناء عروة الصلاة، ثم يليها في البناء عرى الإسلام تترى، حتى نصل إلى عروة الحكم، وهذا قانون معلوم بالضرورة عقلاً، إذ أن أول قطعة تفك من السلاح آخر قطعة تركب.
وهل يعقل أن نقيم سقف البناء قبل إقامة دعائمه؟!! وهل تقام الدعائم قبل الأساس؟!!
وهل يعقل كذلك أن تسقط دعائم البناء ويبقى السقف قائماً؟!!
فإذا كانت الحياة والعيش لا تستقيم تحت سقف بناء لا جدر له، ولا أبواب وشبابيك، فكيف تطيب الحياة والعيش تحت عروة الحكم – على افتراض وقوع ذلك – دون وجود باقي العرى الأخرى في المجتمع؟!
وإذا كان الأمر هو استحالة وضع عُروة الحكم قبل عرى الإسلام الأخرى، فكيف يتصور عاقل أن توضع هذه العروة، بمعناها الثاني – في أول سلم الأولويات في العمل الإسلامي؟ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37].
(1) تخريج الألباني: (حم حب ك) عن أبي أمامة. تحقيق الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم: (5075) في “صحيح الجامع”.