أولا: حين نتحدث عن دولة من دول الكفر كأمريكا، يجب الاتفاق ابتداءً على أنها من الدول المعادية لنا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من خلال دعمها المتواصل لإسرائيل ماديا ومعنويا، وموقفها المتخاذل من أصدقائها في العالم، وتركهم يلاقون مصيرهم المشؤوم بل حتفهم، وضغطها على أصدقائها لإجراء تغييرات في سياستها الداخلية قبل الوصول إلى مبررات مشروعة لتلك التغييرات.
ثم يجب كذلك الاتفاق على أن أمريكا رغم كل هذه الجرائم، تعد العدو الأقل ضررا على الإسلام والمسلمين من الدول الأخرى كالدول الإشتراكية أو إيران التي يفقد فيها المواطن الضرارات الخمس للحياة الإنسانية، أو بعضها. فحديثنا عنها يهدف إلى تحليل الأمور بشكل صحيح للحصول على رؤية تحليلية منصفة أقرب للواقع تمكننا من التصرف بالاتجاه الصحيح نحو التغيير للأفضل وليس للأسوأ.
ثانيا: بات من الواضح لدى المراقبين السياسيين والمحليين تباين الموقف الأمريكي بين ما جرى في الثورة المصرية والثورة الليبية، ففي الوقت الذي كانت تتابع فيه أمريكا الأحداث منذ البداية وحتى النهاية في مصر، بل وتضغط وبشكل ملفت للنظر ومُلحّ على النظام المصري لإجراء التغييرات المطلوبة والاستماع لمطالب المعارضة، نراها اتخذت موقفاً آخر من الثورة الليبية يتسم بالتغافل أو التجاهل منذ البداية، وكان تفاعلها مع الحدث بعد بضعة أيام باهتاً، وقائما على التمهّل لحين دراسة الحدث والخيارات المفتوحة، أو أنها دعت بريطانيا وفرنسا لتقود حملة المعارضة ضد النظام الليبي بالنيابة، مما أفرز السؤال الكبير لدى الكثيرين عن سر هذا التباين في الموقف الأمريكي، وخاصة أنه كان من المفترض أن تكون ردة الفعل الأمريكي ضد النظام الليبي أعنف من موقفها من النظام المصري، وذلك للعديد من الأسباب منها اقتراف النظام الليبي المجازر تلو المجازر ضد الشعب الأعزل مستعينا بالمرتزقة والطائرات والدبابات، ومنها الاختلاف الأيدولوجي بين النظامين.
فهل جاء هذا التباين في الموقف الأمريكي من باب أنه صديق للنظام الليبي وعدو للنظام المصري أو البحريني، الذي نال من المواقف الامريكية هو الآخر ما ناله النظام المصري ولو بدرجة أقل؟ أم أن مصالحه تتقاطع مع النظام الليبي وتختلف مع النظام المصري والبحريني؟ أم ماذا؟
ثالثا: لتحليل هذا الحدث واستنباط العبر منه، لا بد من العلم أن ثمة مواقف كلية (مباديء) أو ما يسمى بالمواقف اليقينية التي لا تحتمل إلا حكما واحدا، وأخرى جزئية (فروع) أو ما يسمى بالمواقف الظنية التي تحتمل أكثر من حكم. فعلى المحلل أو المستنبط السياسي أن لا يصرفه النظر في المواقف الجزئية الظنية (الفروع)، عن النظر في المواقف المبدئية اليقينية لاستنباط التحليل السياسي، فتقديم النظر في المبادىء والأصول (اليقينيات) في التحليل السياسي أولى منه في الفروع (الظنيات)، وفي حال تعارض الأصول اليقينية مع ما يظهر أو يبدوا لنا في الفروع الظنية، فعلى المحلل أو المستنبط التمسك بالأصول اليقينية، لأن القاعدة الاصولية تقول: (اليقين لا يزول بالشك). وهذه القاعدة معمول بها لدى علماء الاستنباط سواء في العبادات أو في غيرها.
فعند عرض الموقف الأمريكي المتباين في كل من الأزمة المصرية والليبية، لا بد من تحديد بعض المبادىء وبعض الفروع المصاحبة للحدث، بحيث لا يعتمد المستنبط في التحليل على الفروع الظنية دون المبادئ اليقينية. فمن المبادئ التي تحكم العلاقة بين النظام الليبي والأمريكي، هو أن أمريكا تدعو للتمسك بالحكم الديموقراطي في تداول السلطة وحرية التعبير، وانقتاح السوق وحريته، وهذه الأصول اليقينية تتعارض تماما مع الأصول اليقينية لدى النظام الليبي الاشتراكي القائم على الدكتاتورية، وعلى تكميم الافواه والتأميم، وإلغاء البرلمان والأحزاب ومنع حرية تداول السلطة.
لذا نستنتج من ذلك، أن أصل العلاقة بين ليبيا وأمريكا قائمة على الحذر، بل على العداوة، وذلك للتعارض والتناقض في المباديء بينهما، وهذه نقطة جوهرية.
أما موضوع تأخر ردة الفعل الامريكي ضد النظام الليبي القمعي، فهو يحتمل أكثر من وجه، لهذا فهو يعتبر من الفروع الظنية لا اليقينية، فلا بد عند تحليل الحدث أن لا نعتبر تأخير ردة الفعل هذه مبدأ من المبادىء الأمريكية، بل هي فرع لا أصل، ولو فعل المحلل ذلك لم يصب في تحليله، بالتالي لا يعني ضرورة أن أمريكا بتأخر موقفها هذا على ما يجري في ليبيا، أنها مؤيدة للنظام الليبي ولقمعه، لأن هذا الاحتمال في التحليل يضرب المبادئ التي تقوم عليها السياسة الأمريكية المشار اليها قبل أسطر. إذن لا بد من البحث عن تحليل لهذا التأخر في الموقف الامريكي بما لا يتناقض مع مبادئها القائمة على العداء لمبادئ النظام الاشتراكي الليبي .
رابعا: لقد مرت أمريكا بتجارب سابقة مثل هذا، فقد تأخرت في التحرك فيما جرى للمسلمين على يد الاشتراكيين الصرب، ولم تتحرك بفاعلية إلا بعد المزيد من الانتقادات كما يحصل حاليا، ولكن انظر ماذا حدث بعد ذلك:
بعد تحرك أمريكا لفك الاشتباك، بل لمحاربة الصرب الاشتراكيين عسكريا، سارعت نفس الدعوات التي كانت تطالبها بالتحرك لنصرة الشعب البوسني، لتنتقد الموقف الامريكي الجديد، باعتباره جزءا من السياسة الامريكية الرامية لاحتلال المنطقة وفرض سيطرتها ونهب ثرواتها، متناسين أن المبدأ الأمريكي معادٍ للمبدأ الاشتراكي.
خامسا: علينا أن نكون واقعيين، فان كان الموقف الأفضل بالنسبة لنا هو أن تتدخل أمريكا لنصرة المسلمين هنا أو هناك، فعلي المؤيدين لهذا التدخل والمطالبين فيه أن يثبتوا عليه وأن لا ينقضوا غزلهم بعد حدوثه.
وإن كنا لا نريد لأمريكا ابتداء أن تتدخل في أزماتنا، فعلينا أن لا نطالبها بالتدخل وننتقدها بسبب تأخرها عن التدخل. وأعتقد أن هذا من الإنصاف المفقود، ولا يقال هنا إن مطالبتنا لها تأت من باب أن أمريكا هي حامية الأرض وراعيها، فهذا القول وإن كان لأمريكا مصالح منبثقة عن مبادئ تريد نشرها أو الاحتفاظ بها أو ضمانها، فهو ليس مطلقا لأن أمريكا هي جزء من القوى الفاعلة في العالم، وإن كانت أكبر جزء فيه، ثم فيه دليل كبير على انهزاميتنا وذلنا وهواننا أن ننتظر امريكا أو غيرها لإنصافنا.
سادسا: راقبوا موقف المنادين بتدخل أمريكا في الشأن الليبي هذه الأيام أو حتى المنادين بتدخلها العسكري، وقارنوه بالموقف بعد التدخل، علما بأن الحكم على العموم، وستلاحظون أن البعض سيعبّرون عن رضاهم للتحرك الأمريكي في الشأن الليبي في الأيام الأولى، وبعضهم فقط في الساعات الأولى، لكن سرعان ما سينقلبون ويجرفهم تيار أو سيل الدعاية المنتقد لتدخل أمريكا في الشأن الليبي، بعد مطالبتهم لها بالتدخل.
سابعا: أي تحليل سياسي يجب أن يواكب الأحداث، وأن يتغير بتغير المعطيات، وأهم المعطيات هي المبادىء والاصول، فمتى طرأ عليها بعض التعديلات، فحينها لا بد من تغير نتيجة التحليل. بشرط أن يكون ذلك التغيير في المبادئ حقيقي لا صوري، ولمعرفة حقيقة تغيّره، يجب النظر إلى أصل النظام، فان كان يجيز الكذب والمراوغة فعلينا أن لا ننخدع بما يطرحه من تغيير في المبادىء ابتداء لحين التثبت من أن حركته هذه بعيدة عن النفاق.
وأخيراً توضح لنا، أن تأخر ردة الفعل الامريكي تجاه المجازر التي ارتكبها النظام الليبي، ليس من الأصول بل هو من الفروع، وأن حصول هذا الفرع على أرض الواقع، لا يعني إلغاء العداء بين كل من النظام الليبي الدكتاتوري الاشتراكي والنظام الامريكي الديموقراطي الحر. وإنه لا بد لنا حينها من البحث عن سبب لهذا التأخر بما لا يتعارض مع نتيجة المبادىء المتناقضة التي يقوم عليها النظامان المؤدية إلى العداء بينهما. والله أعلم بالصواب.
25/2/2011