درجات و مراتب التغيير في فقه الواقع و الفقه السياسي

لما خلق الله تعالى الخلق ابتلاهم أيهم أحسن عملاً, فلا زالوا على التوحيد حتى اجتالتهم الشياطين، فأرسل الله لهم النبيين تترى يدعونهم إلى الإسلام ـ دين الأنبياء جميعاً ـ من جديد, وهو دين الرحمة, يرحم الله به عباده الصالحين, فكانت هداية الخلق للحق مقصودة لذاتها, وهي أسمى مقصد من مقاصد الديانات السماوية جميعها. لذا حرص الإسلام باعتباره آخر الشرائع وناسخاً لها كل الحرص على إخراج العباد من الظلمات إلى النور, وأوجب لأجل ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذلك لتحقيق أمرين اثنين:

الأول: زيادة الخير في الأمم من خلال الأمر بالمعروف، وأعظمه تحقق التوحيد وأركان الإسلام.

الثاني: التقليل من المنكرات من خلال النهي عن المنكر, وأكبره الشرك بالله والكبائر.

وبما أن أهل الخير يتفاوتون في الدرجات فيما بينهم, وأهل الشر كذلك، فإن المطلوب:

1- رفع نسبة الخير في المجتمع, وذلك بزيادة الخير من درجة إلى أخرى ـ أي من درجة الكمال إلى الأكمل ـ.

2- التقليل من نسبة الشر في المجتمع من الدرجة الأسـوأ، إلى الدرجة الأقــل ســوءاً.

وتحقيقاً للمعاني السابقة أصّل أهل الفقه قواعد أصوليّة, منها قاعدة((ترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين))، وهذا باب عظيم من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إذ بالعمل به تتنزّل رحمة الله تعالى على العباد وينجون من عذابه.

يقول ابن تيمية رحمه الله في هذا المعنى:

((فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً))([1]).

ويقول:

((إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما))([2]).

ولتوضيح الأمر, علينا أن نتصوّر الرسم التالي:

درجات التغيير

 

 

يمثل هذا الرسم موقف الشخص المقصود أو الجماعة أو الدولة من الإسلام كما يلي:

أ- نقطة المنتصف ( الصفر), وتمثل موقف الحياد من الإسلام, غير مؤيد وغير معارض.

ب- الاتجاه إلى اليمين, ويمثل أربع درجات:

1- عمل القلب بالإيمان، ويشمل (قول القلب، أي تصديقه، وعمل القلب، أي خضوعه وانقياده) وهو أصل الإيمان، أو حدّه الأدنى([3]).

2- عمل باللسان: وتشمل الدرجة السابقة, ويضاف إليها التعبير عن التعاطف مع الإسلام باللسان, كأن يقول: الإسلام دين الحق وهكذا.

3- عمل بالأركان: وتشمل الدرجات السابقة وإقامة أركان الإسلام في النفس (صلاة, صوم…)

4- بذل النفس والمال, وتشمل الدرجات السابقة جميعاً، ويضاف إليها بذل المال والنفس دفاعاً عن الإسلام والدعوة إليه.

ج- الاتجاه إلى اليسار, ويمثل بأربع درجات:

1- عمل القلب بالكفر, ويشمل ( قول القلب، أي تكذيبه، وعمل القلب، أي عدم الخضوع والانقياد) وهو حد الكفر الأدنى.

2- عمل باللسان, ويشمل الدرجة السابقة ويضاف إليها استعمال اللسان في الصد عن الإسلام, كأن يقول: الإسلام دين رجعي وباطل، أو يسخر من العلماء.

3- عمل بالأركان, ويشمل الدرجات السابقة، ويضاف إليها ترك الواجبات، وفعل المحرمات.

4- بذل النفس والمال, ويشمل الدرجات السابقة ويضاف إليها بذل المال والنفس في محاربة الإسلام.


(1) ((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (23/343).

(2) ((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (30/193).

(3) ((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (7/637،263،644،377،639).

Scroll to Top