كشف حقيقة الصوفية في أقوال عبد القادر الجيلاني

تلخيص كتاب الكشف عن حقيقية الصوفية الجزء 6

– وننتقل إِلى غيره، لنعود إِلى التواصي بالكتمان، ونرى صوراً من العبارة التي يستعملونها، يقول عبد القادر الجيلاني([1]) (قطب الأولياء عبد القادر الجيلاني الكرام):

…هم (أي: الواصلون) أبداً في سرادق القرب، فإِذا جاءتْ نوبة الحكم كانوا في صحن الحكم، إِذا جاءت نوبة الخروج كانوا على الباب يأخذون القصص من الخلق يصيرون وسائط بينهم وبين الحق عز وجل، هذه أحوالهم، ولكن من الحال ما يكتم([2]).

– ما يجب الانتباه إليه:

1- الواصلون (في سرادق القرب): واضح أنه القرب من الله، و(كانوا في صحن الحكم): واضح أنه الحكم في الكون، أو التصرف! وهذا هو مقام الغوثية وهو- كما يعرف كل من قرأ القرآن وفهمه- أنه (أي: القول بالتصرف) من الشرك الأعظم؛ لأنه سبحانه يقول: ((..وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)) [الكهف:26].

2- في نوبة الخروج يكونون على الباب وسائط بين الخلق والحق، وهذا أسلوب آخر في التعبير عن مقام (الفرق الثاني) أترك تحليله للقارىء.

3- مع ما في قوله من الشرك العظيم، فهو يقول: (ولكن من الحال ما يكتم)، فما هو هذا الحال الذي يكتم؟! وهل هناك ما هو أعظم من الشرك (كانوا في صحن الحكم)؟!، في الواقع نحن الآن نعرف الجواب ومع ذلك نكرر السؤال! ما هو؟ كما يحق لنا -منذ الآن- أن نعرف أن سيف التأويل صقيل صقيل، طويل طويل، لفاف دوار!

ويقول أحمد الرفاعي الغوث([3]):

…أي علي! كل القوم شربوها فحكمت عليهم، فعربدوا وباحوا، وخالك شربها فحكم عليها، فكتم حبه، وأخفى وجده، فظهر بكتمانه على أقرانه، وارتفع بكتمان حُبه عند حبه على صحبه. أي: علي! عليك بكتمان الأسرار، تنال الفخار([4]).

– يريد بقوله: (شربوها)، أي: شربوا الخمرة الإلهية، وهي إِشارة إِلى التحقق بالألوهية وما يصاحبه من لذة.

ويقول:

يسقي ويشربُ لا تلهيه سكرتُه عن النديم ولا يلهي عن الكاسِ

أطاعهُ سكرُه حتى تمكَّنَ من حال الصّحاة وهذا أعظمُ الناس([5])

ونعرف طبعاً أن السكر هو مقام الفناء، أو هو لذة الشعور بالألوهية.

ويقول: …أعلم أن المدَّاح الذي يمدح بمجلس الفقراء بغير طمع…يكون له من الفقر سبعة قراريط، بشرط أن يكون مداحاً بالحقيقة…ولهذا الشرط في المعنى شروطاً: الأول: أن يكون فقيراً…السادس: أن يكون أمين الخزائن السرية، أي: أميناً على الأسرار فلا يكون مبيحاً بالسر([6]).

– ولا أظننا – منذُ الآن- بحاجة للتعليق على النصوص، فقد أصبحت واضحة المعاني لمن درس النصوص السابقة بإِمعان.

– ويقول أبو مدين المغربي([7]) (الغوث):

وفي السر أسرار دِقاق لطيفةٌ تُراقُ دِمانا جَهْرة لو بها بُحنا([8])

ويورد عبد الحليم محمود (الدكتور، شيخ الجامع الأزهر)([9]):

قيل له: (أي: لأبي مدين) مرة في المنام: حقيقة سرك في توحيدك؟ فقال: سري مسرور بأسرار تستمد من البحار الإلهية التي لا ينبغي بثها لغير أهلها، إِذ الإشارة تعجز عن وصفها، وأبت الغيرة الإلهية إِلا أن تسترها، وهي أسرار محيطة بالوجود لا يدركها إِلا من كان وطنه مفقوداً، وكان في عالم الحقيقة بسره موجوداً، يتقلب في الحياة الأبدية، وهو بسره طائر في فضاء الملكوت، وشرح في سرادقات الجبروت، وقد تخلق بالأسماء والصفات، وفني عنها بمشاهدة الذات…وكشف لي عن مكنون التحقيق، فحياتي قائمة بالوحدانية، وإشاراتي إِلى الفردانية([10])

– يلاحظ هنا أن الكلام مناميٌ! رؤيا رآها أحدهم!! ولكن نحن ماذا علينا؟ فقد رواه في كتابه الشيخ الأكبر شيخ الجامع الأزهر!! كما يجب أن ننتبه إلى عبارة: (وإشاراتي إلى الفردانية).

ويورد أيضاً أن ابن عربي يقول:

شيخنا أَبو مدين، من الثمانية عشر نفساً الظاهرين بأمر الله عن أمر الله، لا يرون سوى الله في الأكوان([11]).

– ويقول عمر بن الفارض([12]):

فلاحٍ وواشٍ ذاك يُهدي لعزةٍ ضلالًا وذا بي ظل يَهذي لِغرةِ

أخالف ذا في لومه عن تقىً كما أخالف ذا في لؤمه عن تقية([13])

– يجب أن ننتبه في البيت الثاني إِلى فكرة (التقية) ومع من يستعملها؟

ويقول:

وثَم أمورٌ تمّ لي كشفُ سرْها بصحو مفيقٍ عن سواي تغطّتِ

وعنيَ بالتلويح يفهم ذائقٌ غنيٌّ عن التصريحِ للمتعنت

بها لم يبح من لم يُبح دمه وفي الإشارة معنى ما العبارة حدت([14])

– ما يجب أن ننتبه إليه في أقوال ابن الفارض هنا، هو كلمة (الهوى) في قوله: ولي في الهوى علم تجل صفاته…وإلى ماذا تشير؟

إِن تحليلاً لهذه العبارة (الإشارية) يقدم مساعدة جديدة في فهم إِشاراتهم ورموزهم، نحن نعلم أن الهوى أو العشق – كائناً ما كان- ليس فيه علم ولا فقه، فما هو هذا الهوى الذي يعلِّم ويفقّه؟! من البدهي أنه يعني بالهوى هنا، هوى الذات الإلهية، ونريد أن نقفز فوق فصول الكتاب، لنوضح هذه الإشارة، رغم أن مكان التوضيح هو في ما يأتي من الفصول.

في الحقيقة والواقع أن هذا الهوى هو هوى لتلك اللذة العارمة التي يذوقونها في (الجلوة) أو (الجذبة)، حيث يغدون في حالة لا يرون فيها الأجسام كما هي، فقد يرونها أشباحاً شاحبة يتخللها نور قد يكون باهتاً وقد يكون قوًّيا طاغياً، وقد تضمحل هذه الأشباح والرؤى فلا يرى أَمامه إِلا أبعاداً شفافة، وقد يرى مناظر مختلفة، وقد يرى نفسه شفافاً مندمجاً في وجود شفاف، ويفسر هذا حسب الإيحاءات الشيخية أنه فناءً في الله (جل وعلا) وما شابه ذلك.

وهم يظنون أَن هذا النور الذي يشاهدونه في كل شيء وفي ذواتهم، هو الله ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))، والحق أن هذه الحالة تشبه بدقة حالة التحشيش والأفينة! وفي هذه المشاهدة قد يسمعون كلاماً، أو يرون أشياء، يظنونها علماً، وهو ما يسمونه (العلم اللدني) وسنرى فيما بعد أمثلة من هذا العلم (اللدني). إِن الهوى أَو العشق، للخمرة الإلهية – كما يسمونها- هو الذي يدفعهم إِلى الرياضة والمجاهدة من أَجل (الوصول إِلى الجذبة)، ويسمون ذلك (الوصول إِلى الله، أَو العروج إِلى الله) حيث يتلقون العلم اللدني.

– إِذن: فهذا الهوى هو الذي قادهم إِلى الجذبة فالعلم، ومن هنا كانت إِشارة ابن الفارض. فهو يرمز بكلمة (الهوى) إِلى ما يقود إِليه الهوىَ، وهو الجذبة، أَو الفناء في الله (بل الصحيح هو اللذة التي يجدونها والتي تستغرقهم حتى الإمناء).

———————————————-

([1]) أبو محمد محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح موسى جنكي دوست، ولد في جيلان عام (470)، وعاش في بغداد، وتوفي فيها عام (561هـ).

([2]) الفتح الرباني، (ص:200).

([3]) أحمد محيي الدين أبو العباس الرفاعي ولد وعاش في أم عبيدة (كسفينة) من أعمال واسط بالعراق، وتوفي فيها عام (578هـ).

([4]) قلادة الجواهر (ص:83)، وعلي هذا هو علي بن عثمان ابن أخت الشيخ أحمد، وهو صاحب كتاب (السر الجلالي والمقامات والمعالي).

([5]) قلادة الجواهر، (ص:227). في كتاب (بهجة الأسرار ومعدن الأنوار)، (ص:117) يعزى البيتان للشيخ سيف الدين قاضي القضاة أبي صالح؟؟.

([6]) قلادة الجواهر، (ص:279).

([7]) أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاري، أصله من (حصن قطنيانة) قرية تابعة لِإشبيلية في الأندلس، هاجر إلى

بجاية صغيراً، وعاش فيها، وتوفي في (العباد) خارج تلمسان عام: (594هـ) وقيل قبل ذلك.

([8]) الفتوحات الِإلهية، (ص:45)، وهي من قصيدة أولها:

تضيق بنا الدنيا إذا غبتمو عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا

أوردها عبد الحليم محمود في كتابه (أبو مدين الغوث) حاذفاً منها هذا البيت؟؟!!.

([9]) من أكبر مشايخ الصوفية في مصر، توفي منذ سنوات قليلة.

([10]) كتاب (أبو مدين الغوث)، (ص:130).

([11]) أبو مدين الغوث، (ص:124).

([12]) ولد وعاشر في القاهرة ثم هاجر إلى مكة وبقي فيها (15) عاماً، ثم عاد إلى القاهرة وتوفي فيها عام: (632هـ).

([13]) التائية الكبرى، الديوان، (ص:23).

([14]) التائية الكبرى.

كشف حقيقة الصوفية في أقوال عبد القادر الجيلاني
تمرير للأعلى