تذكرنا صفقة تبادل الجواسيس الأمريكية الروسية بأيام الحرب الباردة، فما هي دلات هذا التعبير؟ لنعد قليلا للحرب الباردة، إنها حرب بين الشيوعية والرأسمالية، ولكن الآن إذا كانت روسيا حقا تنتهج سياسة السوق الحرة وحرية التعبير وتطبيق الديموقراطية، فلماذا تعود الحرب الباردة؟ وما هو الداعي لوجود جواسيس؟ لقد كانت العلاقات الأمريكية الروسية جيدة في فترة القياصرة فلماذا لم تعد الأمور لمجاريها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
أليست بريطانيا وفرنسا وألمانيا بل وكل الاتحاد الأوروبي منافسا لأمريكا، فلو كانت العلاقة السيئة بين أمريكا وروسيا ناتجة فقط عن المنافسة لربما يجب أن تكون مثل العلاقة بين أمريكا وأوربا، أو ربما أفضل حيث من الممكن أن تتفق أمريكا وروسيا ضد الاتحاد الأوروبي في المنافسة، لكن الأمور تجري تماما وكأن الاتحاد السوفييتي لم ينهار وكأن الشيوعية بشقها السياسي لم تنتهي على الرغم من انحسار شقها الاقتصادي، فهل هناك تفسير لاستمرار مظاهر الحرب الباردة؟
وللوصول إلى فهم أعمق لما يجري داخل بلاد الاتحاد السوفيتي السابق وخلف أسواره المتبقية، علينا أن نعي حقيقة الشيوعية وتعريفها. فهل هي الإلحاد؟ أو هل الإلحاد هو جوهر الشيوعية؟ أم أن التأميم هو جوهر الشيوعية؟ ماذا تعني كلمة “شيوعية”؟ هل للشيوعية شق سياسي غير الشق الاقتصادي؟
حقيقة الشيوعية مكونة من مبادىء رئيسة، الأول: الثورية وهي السيطرة على الكيانات السياسية والاجتماعية القائمة وحكمها، وهذا يقتضي العمل على اسقاط الانظمة. الثاني: التأميم وامتلاك الدولة لكل وسائل الانتاج والاقتصاد وكأنه مشاع للجميع وهو، أما الإلحاد فهو ليس من جوهر الشيوعية وهو موجود قبل الشيوعية ولم يستمر وجوده طوال فترة مسيرة الشيوعية، وهو عامل مساعد يعمل على إضعاف علاقة الجماهير بالوحي فيسهل توجيههم وبرمجة عقولهم للسير في طريق الثورة التي يدبرها الشيوعيون. الثالث: وهو مبدأ يتبع للشق السياسي للشيوعية فهو ما يعبرون عنه بـ “ديكتاتورية البروليتاريا أو الطبقة العاملة” التي هي عمليا دكتاتورية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وهؤلاء قد تحولوا لطبقة أكثر رأسمالية وبرجوازية من أي دولة رأسمالية في العالم، لكنهم ظلوا يزعمون أنهم من الطبقة العاملة!
ولأن الرأسمالية هي القوة الأكبر مقابل الكتلة الشيوعية أو الاشتراكية ـ لا فرق ـ فقد أعلن لينين حتمية القضاء على الرأسمالية وسقوطها للوصول الى مجتمع شيوعي خالي من الطبقات حسب زعمه. ومصطلح الرأسمالية بالنسبة للشيوعيين مصطلح واسع يشمل كل نظام اقتصادي يعطي الفرد حقه من الملكية الخاصة ويحترمها ويحافظ عليها، ومن هنا تصنف الأوساط الشيوعية الدين الإسلامي والدين النصراني بأنها أديان رأسمالية بهذا المعنى، فهم كذلك معنيون جدا بالقضاء على الإسلام وعلى النصرانية لهذا الاعتبار ولغيره.
لذا فمن أدرك حقيقة الشيوعية الرامية للقضاء على العالم واستعباده، وما تقوم عليه من مبدأ (إكذب ثم اكذب ثم اكذب وسوف تصدق الكذبة) وأدرك مبدأ اللف والدوران، ومبدأ الانعطافات الفجائية، أدرك أن ما جرى ويجري في الاتحاد السوفيتي وروسيا، ما هو إلا أسلوب خطوة الى الخلف لأجل خطوتين للأمام. ونوع من التكتيك لم يمس جوهر المبادىء الشيوعية الأساسية، وإن رأينا بعض التخفيف المدروس والمقنن فيها.
وعليه، فإن سلسلة وحلقات ومسيرة التجسس بين الشيوعيين أو أحفادهم في موسكو، وباقي دول العالم لن تتوقف أبدا حتى يتم القضاء على أحد الطرفين. لذا لا زلنا نسمع بين الفينة والأخرى عن سقوط عدد من الجواسيس الروس في أمريكا، أو العكس.