يقول محمود أبو الفيض المنوفي([1]):
وكذلك كل ما يبزغ أو يبدو في الكون من حياة أو وعي أو إرادة تنجلي كلها لكفاياتنا العليا، كأنها نعوت وخصائص أصلية لذلك الكائن الأسمى، الذي يبدو أنه مطلق يشمل اقتداره وإبداعه وجودنا ووجود غيرنا من الكائنات،…، فهو يقيناً ذلك الكائن الغيـبي الذي نظم الكون ما علا منه وما سفل، بسماواته وأراضيه، …، وقد جعل الكائنات كلها تتطور وتترقى إلى هدف خاص بالمجموع، كما لو كان هذا المجموع الكلي كائناً واحداً يهدف إلى حقيقة لا يُدرك لها غور ولا نهاية، وما ذلك إلا لأن مبدع الكل كائن مطلق، ومتوحد في وجوده المتسامي([2]).
* الملحوظات:
نحن الآن أمام ظاهرة في الكتابة الصوفية، فيها شيء من الجدة، هذا الشيء هو العبارة الخائنة، التي خانت قائلها فأظهرته بمظهر التناقض الصارخ، وإليك النص التالي الذي هو أكثر وضوحاً من هذا السابق.
يقول: … وقد أقاموا – أي الذين يهاجمون التصوف – أنفسهم بمعارفهم الضئيلة حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه، بدون مبرر يبرر نظرياتهم لا من الشرع ولا من العقل، حالةَ أنهم لم يتذوقوا من مشارب القوم وعلومهم ومعارفهم ومواجيدهم فيما بينهم وبين ربهم، وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود! وأول ما يرمون التصوف به من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود، فما وحدة الوجود يا ترى؟ هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟! هو المستحيل أو بين حادث وقديم وهو مستحيل أيضاً، والقوم أهل توحيد، أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟ وهذا باطل ينفيه التصوف الحق([3]).
* التعليق على هذا الكلام:
– يقول: وقد أقاموا أنفسهم بمعارفهم الضئيلة..، فنجيبه: لكن تقريراً للحقيقة: إن هذه العبارة تعني معارفهم الضئيلة بالصوفية، وهو بهذا صادق، لأن كل الذين هاجموا التصوف كانوا لا يعرفون عنه إلا أموراً سطحية، فمعارفهم به كانت ضئيلة.
وقوله: …حكاماً قساة على أولياء الله وعارفيه بدون مبرر…، فنجيبه:
أ- الذي يحكم بالقرآن والسنة لا يكون حاكماً قاسياً، والذي يتهمه لذلك يخرج من الإيمان: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [النساء:65].
ب- يقول:.. على أولياء الله..، فمن قال لك يا هذا أنكم (أولياء الله)، أوَلَمْ تقرأ الآية الكريمة: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا. انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)) [النساء:49، 50].
ج- أما قوله: بدون مبرر!!، فجوابنا: بل المبرر موجود وموجود وموجود، وهو من الشرع، ومن القرآن، ومن السنة، وهو فرض لا سنة، إنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
– ويقول: وكذلك في نظراتهم السامية العميقة لهذا الوجود..، فنجيبه: قرر مشايخ الصوفية وكبارهم وعارفوهم والمكاشفون والمشاهدون أن الحقيقة هي زندقة بالنسبة للشريعة، فإن كانت نظرات (أهل الحقيقة) سامية وعميقة! فكيف تكون نظرات الشريعة المناقضة لها؟؟ طبعاً ستكون بعكس ذلك! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
– ويقول: وأول ما يرمون به التصوف من كذب عظيم اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود…فنجيبه:
لقد أفحمتنا يا شيخ؟! لأن القول بأن اتهام جميع شيوخ التصوف بوحدة الوجود هو كذب عظيم!! هذا القول هو مفحم جداً!! بل وجداً جداً أيضاً!! ولا يسعنا أمام ما يأتي به هؤلاء الأولياء العارفون من صدق عظيم وجرأة عظيمة وفصاحة أعظم إلا أن نقول: اللهم إنا نشكو إليك هذا البلاء العظيم الذي دمر الأمة الإسلامية، والذي يصرّ أقطابه على السير في طريقهم للقضاء على ما تبقى لهذه الأمة من عقيدة إسلامية وأخلاق ووجود، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
– ثم يقدم التساؤلات: فما وحدة الوجود يا ترى؟! هل هي الجمع بين وجودين أزليين أبديين أو واقعيين؟ ويجيب نفسه: وهو المستحيل.
ونقول: نعم، هو مستحيل، ولم يقل أحد إن هذه هي وحدة الوجود، ونعجب من شيخنا كيف يورد هذا التساؤل الذي لم يرد!! ولكنه الأسلوب الماهر.
ويواصل شيخنا تساؤله: أو بين حادث وقديم؟! وهو مستحيل أيضاً.
ونجيبه نعم، إن الصوفية لا تقول بهذا، لأنه هو ما يسمى بالحلول أو الاتحاد، والصوفية بريئة من كليهما، والإسلام بريء من الجميع.
ويقول: والقوم أهل توحيد.
فنجيبه: نعم، إنهم أهل توحيد، وقد رأينا توحيدهم في أكثر من مائة نص سابق، وعرفنا ما هو، إنه توحيد الوجود.
ثم يقول: أو يريدون بالحقيقة جعلها اثنينية بين خالق ومخلوق؟! وهذا باطل ينفيه التصوف الحق.
فنجيبه:
نعم، نعم، الاثنينية بين الخالق والمخلوق، أي وجود خالق ووجود مخلوق، حيث يكون في الوجود اثنان، خالق ومخلوق فهذا مرفوض عند الصوفية، وقولك يا شيخنا: هذا باطل ينفيه التصوف الحق، هو صحيح تماماً. فالتصوف الحق لا يؤمن بوجود خالق ومخلوق، وإنما يؤمن بوجودٍ واحد فقط هو الحق، وما الخلق منه إلا كموج البحر من البحر، وهي هي نفسها (وحدة الوجود).
ونقول: يا شيخنا، ها أنت تقرر وحدة الوجود عندما ترفض الاثنينية، إذن، فلم اتهمت (الذين يرمون شيوخ التصوف بوحدة الوجود؟!)، لم اتهمتهم بالكذب العظيم؟ وهم لا يرمونكم إلا بما أنتم عليه.
وللإيضاح: يقول النص: …اتهام جميع شيوخ التصوف، وهذا يعني أن قسماً من شيوخه لا يؤمنون بوحدة الوجود، وسنرى فيما يأتي أن الذين لا يؤمنون بالوحدة هم الدخلاء على التصوف الذي يدعون المشيخة دون ذوق أو معرفة (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
([1]) مؤسس الطريقة الشاذلية الفيضية في مصر، أسس الكلية الصوفية عام (1927م)، وبقيت حتى عام (1933م)، ثم أصدر مجلة البهلول.
([2]) معالم الطريق إلى الله، (ص:43).
([3]) معالم الطريق إلى الله، (ص:404).