نكمل موضوع الأسلوب الصحيح في التغيير، يقول الشيخ محمود عبد الرؤوف القاسم (رحمه الله) في كتابه “القرآن يتحدى“:
وتغيير المنكر لا يكون بحماسة المراهقين، ولا بالانحراف مع سبل الدعاية الرمادية والسوداء، التي يظهر بعضها بشكل شعارات جوفاء نرددها كالببغاوات مع فرق كبير هو أن ما تردده الببغاوات لا يؤثر في سلوكها، بينما ما نردده نحن يوجه سلوكنا ويرسم لنا مسار تفكيرنا وتصرفاتنا، ويظهر بعضها الآخر بشكل مواعظ بنيت على شعارات فارغة، أو بشكل أحكام استُنبطت بأسلوب حديث يشبه الشعر الحديث والنقد الحديث وبعض الأسماء الحديثة التي يطلقونها على بعض التفاهات الحديثة..
إنهم يبحثون عن آية أو بعض آية من القرآن الكريم توافق، إن عُزلت عن غيرها، هوى في نفوسهم، فيقتطعونها من القرآن ويضعونها في معزل عن بقية آياته، ثم ينادون بها على أنها حكم قرآني، ولو أنهم نظروا إلى هذه الآية على أنها جزء من القرآن مرتبطة بآياته التي تقيد بعضُ نصوصها بعضَ النصوص الأخرى، وقد تخصص العام منها أو تعمم الخاص، لو فعلوا ذلك لرأوا أن معناها مختلف تماماً عما نادوا به من حكم أو أحكام.
وأضرب مثلاً على ذلك تفسيرهم آية سورة التوبة أو آيتيها:
(( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:5]. (( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ))[التوبة:29].
اقتطع بعض الغثاء هاتين الآيتين أو اقتطعتا لهم من القرآن وقرؤوهما معزولتين عن بقية آياته، فكان الحكم الذي فهموه أن عليهم أن يقتلوا المشركين والمسيحيين حيث وجدوهم، وبدؤوا بتنفيذ هذه المهمة، فكانوا سبباً لتوقف المدّ الإسلامي الذي انتشر في سبعينات القرن الميلادي العشرين في الغرب بشكل جعل المتفائلين يظنون أنه لن ينتهي القرن حتى تكون أوروبا قد أسلمت.
لقد جرفهم السيل سيل الدعاية الرمادية والسوداء فكانوا فتنة للذين كفروا وهم يظنون أنفسهم مجاهدين في سبيل الله، لقد أوقفوا المدَّ الإسلامي، بل كانوا سبباً في ردة بعض الذين أسلموا. ولو أنهم تدبروا القرآن قبل تخبطّهم، لوجدوا آيات تبين لهم فقه ما جهلوه. يقول سبحانه: (( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [البقرة:190].
لنلاحظ أن الحكم في هذه الآية مرتبط بصفة من صفات الله سبحانه ((إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ))، إذن فحكمها محكمٌ غير قابل للنسخ حاكمٌ على كل آيات الجهاد.
ويقول سبحانه: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ))[البقرة:193]. لننتبه أن هدف القتال هو ألاّ تكون فتنة، فإن كان القتال سيسبب فتنة في الدين فهو منهي عنه بمنطوق هذه الآية.
والفتنة في الدين هي الابتعاد عن الدين، إن كان صغيراً فالفتنة صغيرة، وإن كان كبيراً فالفتنة كبيرة، والفتنة أيضاً هي كل تصرف أو سلوك يسبب ابتعاداً عن الدين أو نفوراً منه أو إغلاق القلوب أمامه.
ويقول سبحانه: (( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ))[البقرة:194].
لننتبه إلى قوله سبحانه: ((وَاتَّقُوا اللَّه)) بعد قوله: ((فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)) والتي تعني أننا إذا اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى علينا نكون قد انحرفنا عن تقوى الله. ثم لننتبه إلى قوله سبحانه بعد ذلك: ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )) التي تعني أننا إذا اتقينا الله سبحانه ولم نعتد إلا بمثل ما اعتدي علينا، فالله سبحانه يكون معنا، أما إن زدنا بالاعتداء فالله سبحانه لا يكون معنا. ومع هذا يجب أن نتذكر قوله سبحانه: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى )) فلا نحاول أن نقتص من الأبناء بجريمة الآباء، ولا من الأخ بجريمة أخيه، ولننتبه إلى قوله سبحانه في سياق الآيات الآنفة: (( فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) و ((فَإِنِ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ)).
ويقول سبحانه: (( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)) [النحل:126].
والعجيب في الأمر أن الماركسية كانت طيلة القرن الميلادي العشرين تقتل المسلمين في كل مكان بالملايين وعشرات الملايين ومئاتها، وتزج المسلمين بالسجون في كل مكان بعشرات الألوف ومئات الألوف والملايين، وتشرد المسلمين في كل مكان بالملايين، والمسلمون يشتمون أمريكا والصليبية، ويشتمون معها الأنظمة التي تقف سداً أمام المدّ الماركسي وبعضها يطبق الإسلام تشريعاً ونظام حياة. (كان هذا قبل الدجلية التي تقول إن الماركسية انتهت!!؟؟).
ثم نطلب من الله سبحانه النصر، وهو طلب عجيب، نضع أنفسنا جنوداً لقاتلينا وهاتكي أعراضنا ونجعل من أنفسنا آلات أو قنابل ندمر أنفسنا في الهجوم على أعداء قاتلينا ومشردينا وهاتكي أعراضنا وناهبي أموالنا!!! ثم نطلب النصر من الله سبحانه!! فأي نصرٍ هذا الذي نطلبه؟! وعلى من ننتصر؟!
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصفنا بأننا غثاء كغثاء السيل. يأتي السيل فيجرف الغثاء، فلا يعرف الغثاء من أين هو آت لأنه غثاء، ولا إلى أين هو ذاهب لأنه غثاء، ولا يشعر إن كان هناك سيل يجرفه، وهل يشعر الغثاء بالسيل؟
فإن كنا، حقيقةً نري النصر فعلينا، أولاً التخلص من الغثائية، وللتخلص من الغثائية لا يوجد أمامنا إلا طريق واحدة هي طريق العلم الذي نستقيه، أولاً، من الوحي الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد فهمه فهماً صحيحاً سليماً لا فهماً غثائياً أو صوفياً كما هو واقعنا، وثانياً من حقائق العلم التي توصلت إليها الإنسانية في هذه العصور.
ولنبدأ بنصوص الوحي، بالآية التي جعلناها عنواناً لهذه المقالة، بقوله سبحانه: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )). إذن فلنعمل على تغيير ما بأنفسنا بالأسلوب الصحيح، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأمر بالمعروف بالمعروف بعد معرفة المعروف معرفة صحيحة، وبالنهي عن المنكر بالمعروف وبعد معرفة المنكر معرفة صحيحة. ثم بتطبيق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
لكن تطبيق هذا الحديث محكوم بقاعدة “المفسدة لا تزال بمفسدة”. فمن رأى أمامه منكراً، فيجب عليه أن يغيره بيده إن كان يستطيع، وذلك ضمن ثلاثة شروط لازمة صارمة:
الشرط الأول: أن تكون محاولتنا لتغيير المنكر بأيدينا مدروسة دراسة علمية وافية من قبل علماء متخصصين بموضوع المنكر الذي نريد تغييره وبالظروف التي تحيط به. وهذا يعني أن علم الشريعة وحده لا يكفي، بل لا بدّ معه من العلم الوافي بموضوع المنكر وبالظروف المحيطة به.
الشرط الثاني: أن يكون الأسلوب الذي نتبعه أسلوباً علمياً مدروساً دراسة وافية من قبل علماء مسلمين صادقي الولاء للإسلام مختصين بعلم النفس الاجتماعي، على ألاّ يكونوا حاملين لأفكارٍ صوفية، أو أفكارٍ ماركسية ألبسوها ثوباً إسلامياً، كأفكار حزب التحرير.
الشرط الثالث: ألاّ تكون محاولتنا يمكن أن تؤدي إلى مفسدة، فتكون حينئذ كمن ينفق جهده ووقته وماله ليستبدل الكوليرا بالطاعون.
وإذا فُقد شرط من هذه الشروط الثلاثة، عندئذ تُمنع محاولة تغيير المنكر باليد، ويأتي دور اللسان.
وتغيير المنكر باللسان هو الأسلوب الفعال واللازم في جميع الأوقات، حتى مع التغيير باليد، إذ أن التغيير باليد إذا لم تسبقه دعوة وشروح وتبيان، وتصاحبه دعوة وشروح وتبيان، فسوف تكون نتيجته مفسدة تضاف إلى المفسدة التي يراد تغييرها.
وفي حالة انتشار الفساد في المجتمع، فالوسيلة الوحيد لإزالته هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مع العلم أنه من الواجب أن نعرف أن هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون دون كلل ولا ملل، ولا أقول يجب أن يستمر أياماً ولا شهوراً ولكن العمر كله.
فإذا التزم كل واعظٍ وكل خطيبٍ وكل مدّرس في المساجد أو في المدارس أن يبدأ كل وعظٍ وكل خطبة وكل درسٍ بالدعوة إلى الصدق والأمانة، لمدة أربع دقائق أو ثلاث، ثم يخوض في الموضوع الذي يريد شرحه، بل إذا التزم كل مسلم أن يدعو إلى الصدق والأمانة في كل جلسة وكل مناسبة، إذا فعلوا ذلك، فستظهر النتائج، أو سيبدأ ظهور النتائج بعد سنوات يمكن أن تصل إلى عشر سنوات وقد تزيد وقد تنقص.
قد يقول قائل إن هذا وقت طويل، والجواب هو أن نصل إلى مجتمع يسوده الصدق والأمانة بعد عشر سنوات خير من ألا نصل أبداً. وعندئذ نأمل النصر من الله. وعندئذ نأمل أن يستجاب لنا إذا دعونا. وعندئذ نأمل أن يهدينا الله سبحانه إلى الطريق المستقيم، طريق النصر في الدنيا والآخرة ولله الحمد أولاً وآخراً وفي جميع الأحوال، وإليه المشتكى وهو المستعان إنه على كل شيء قدير.