تجسد الحالة المصرية بصراعات جماعاتها المختلفة على السلطة، حالة عربية عامة لم يُمأسس فيها الصراع على السلطة ضمن أطر دستورية، منذ أن بدأت تتشكل فيها هياكل الدولة في أطرها الحديثة. وهي حالة تجسد انسدادات الأفق المتعلق بالتغيير الذي لا يمكن حصره في فريق دون آخر.
وككل الصراعات العربية على السلطة، فإنها ونتيجة لافتقادها للأطر المؤسساتية، بل لافتقاد نخبها السياسية لثقافة سياسية ضابطة لأشكال الصراع السياسي، فإنه نتيجة لذلك يتجه ليكون صراعا على الحكم والسلطة أكثر منه صراعا على تطوير آليات الحكم والسلطة. وأعتقد أن الطريق نحو الديمقراطية أو لنقل بناء نظام جديد وحديث للحكم، لن يكون سهلا وممكنا في مداه الزمني القصير. فالطريق إليه وكما يبدو قد سبقته صراعات ليس فحسب بين النخب السياسية القائمة، أو بين أولئك الماسكين بالحكم والخارجين عليهم، بل إنه بدا صراعا اجتماعيا عميقا أخذ تجلياته في الصراعات المستعرة الآن بين الطوائف والمذاهب والإثنيات. وهي صراعات قد لا تتوقف عند تدمير المجتمع فحسب، بل إن تداعياتها على الدولة أكبر من ذلك بكثير. وهي كذلك لا تأتي على الدول المستعرة فيها هذه الصراعات بل إن تداعياتها وامتداداتها، وبفعل التواصل التكنولوجي الذي بات مكتسحا ومؤثرا، باتت مخترقة لبعض إن لم يكن جل مستويات الإقليم العربي وزواياه الاجتماعية، وإن أصابت في ذلك المشرق العربي بفعل طبيعته الفسيفسائية المتشكلة فيه عبر آلاف السنين.
وهي حالة لا يمكن الخروج منها بذات الممارسة، أملا في أن يأكل الآخر نفسه وتضعف قوته ويسهل ضبطه. إن تفادي مثل هذه التداعيات قد يتطلب نماذج جديدة في بناء الدولة والمجتمع تتجاوز في ذلك الأنماط التقليدية المولدة والمكرسة لهذا المشكلات. فلا يمكن الخروج من الصراعات الهوياتية العربية الأدنى، إلا عبر تعزيز أشكال من الهويات الوطنية الجامعة وعبر تأكيد حقوق مواطنية متساوية في الفكر والممارسة. فالمجتمعات العربية، لربما قاطبة، تمر بمرحلة تحول حرجة، فهي بدت عاجزة إما عن بسط سيطرتها على حدودها المترامية، أو أنها قد فقدت أو بدأت تفقد جزءا كبيرا أو صغيرا على أفرادها. وهي نتيجة طبيعية للخلخلة التي أصابت الكثير من مؤسسات الضبط القائمة فيها مرورا بتوافر وسائط وتقنيات باتت تشجع الأفراد والجماعات على الانفلات والخروج من السيطرة. ولم يعد يجدي أن تحصن الدولة أو الجماعات نفسها بترسانة من القوانين المتشددة في عقابها للأفراد المنفلتين أو بالإكثار من حجم وتقنيات الأجهزة الضبطية الأخرى.
إن ما يدفعني لهذا القول هو ما نشهده في كثير من المجتمعات العربية التي جاءت عليها رياح التغيير السياسي من صراعات سياسية، أعطي بعضها بعدا طائفيا سواء أكان بين مسلمين ومسيحيين، أو بين شيعة وسنة، أو سنة وسنة، كما في العراق وسوريا وبعض أقاليم الخليج العربي، أو أعطي بعدا قبليا – مناطقيا كما في الحالة الليبية واليمنية ولربما بعض أقاليم الخليج العربي، أو أعطي بعدا آيديولوجيا كصراع الجماعات الإسلاموية مثل جماعات الإخوان المسلمين بتحالفاتهم السابقة مع الجماعة السلفية وغيرها، في مقابل الجماعات والقوى الليبرالية والعلمانية في الحالة المصرية. بل إن صراع الجماعات الإسلاموية مع المؤسسة العسكرية والأمنية قد أعطي هو الآخر بعدا آيديولوجيا سياسيا، بات كل طرف يصبغها على الطرف الآخر. ويمثل الصراع في سوريا والعراق حالة نموذجية لتداخل كل أشكال الصراع الذي وظفت فيه الأبعاد القبلية والمذهبية والطائفية والدينية والإثنية، حتى بات المجتمع منقسما على نفسه قبل أن يكون منقسما عن الدولة. وهي مداخل تؤسس لحالة الدولة الفاشلة أو المنهارة، ليس في شكلها اللبناني وإنما هي صوملة جديدة تتمثل فيها الفسيفسائية الشامية البالغة التعقيد.
من هنا لا يمكن حل مشكلات الصراع السياسي في مصر وليبيا وتونس وسوريا والعراق ولبنان وغيرها عن طريق تبني مداخل الاستئصال السياسي أو الإثني، سواء كانت متبناة من أطراف في داخل الدولة أو معارضيها. وهي طرق قد تُسكّن المُشكل إلا أنها لا تحله، كما أنها طرق قد سبق وأن جربتها الدولة العربية منذ تشكيلها الحديث حتى الآن ولم تنجح. بل إنها حلول قد عطلت من تطور جهاز الدولة وأدوات الحكم. وأدت إلى تضخم حجم وقوة بعض مؤسساتها على حساب الأخرى والتي أصبحت فيما بعد عبئا على الدولة، وعلى قدرتها على ابتداع حلول غير تقليدية لمشكلاتها المعاصرة، بل جعل منها مؤسسة غير قادرة على ابتداع حلول خارجة عن صندوق حلولها التقليدي.
إن حالة من الفرز والاستقطاب السياسي أو السياسي – الإثني، أو السياسي – الجهوي، أو السياسي – القبلي القائمة الآن في جل مجتمعات الربيع العربي، لم تساهم فيها الدولة أو مؤسساتها المؤثرة فحسب، وإنما ساهمت فيها بقدر آخر ومؤثر القوى والجماعات المعارضة نتيجة لطبيعة بناء خطابها الفكري وتوجهاتها الآيديولوجية، كما هي شبكة تحالفاتها الخارجية، وما تعتقد أنه يمكن أن يخدمها أو أن يؤلب العامة على النظام والعكس. وهي قوى وجماعات ومؤسسات قد ساهمت في إسكات كثير من الأصوات التي لم تتفق معها بالطرق المختلفة. إن إحدى معضلات استعصاء هذه المجتمعات على الخروج من مأزقها وأزمات الصراع السياسي فيها، في اختفاء أو إخفاء أي دور لما يمكن وصفه بالفئة أو الفريق الثالث الذي قد يختلف مع السلطة في بعض معالجاتها كما قد يختلف مع الجماعات المعارضة وبرنامج عملها السياسي، ثم إن أي حل سياسي قد يتطلب قدرا من التنازل المتبادل الذي لا يمكن للحلول أن تتم دونه. وهي حالة لا يبدو أنها تشكل جزءا من الثقافة السياسية للأطراف والقوى المتصارعة.
من الناحية الأخرى، فإن البعض مثلا قد لا يتفق هنا، ولربما يعارض وبشدة مثلا جماعات الإخوان المسلمين أو يختلف مع تحالفهم السياسي سواء في أسلوب إدارتهم للحكم، قبل الإزاحة أو في إدارتهم للصراع السياسي القائم الآن. إلا أنه من الخطورة دفعهم نحو قدر من التمثل الكربلائي لصراعهم السياسي أو أن يدفعوا لزاوية لا يمكنهم الخروج منها إلا بإذلال، أو تصبغ فيهم أوصاف تشيطنهم وتسد على كل الأطراف إمكانية العودة أو التواصل. لا بد من فعل سياسي غير تقليدي تخرجهم من الحالة التي باتوا فيها أو عليها. أي إخراجهم من الزاوية التي دخلوا أو أُدخلوا فيها، وهو فعل قد يتطلب قدرا من التنازل فيمن لديه القدرة على التنازل، وقدرا من ابتداع الحل والتفكير المشترك فيه. وإلا فإن المُشكل أو الأزمة ستكون كرونيكية مستعصية، قد يكون من الممكن إسكاتها أو إخمادها لبعض الوقت، بما يتوافر للبعض من حلول تقليدية معروفة، إلا أنها تبقى مداخل لا يُمكنها أن تحل المعضل برمته حلا ناجعا يُمأسس لحالة سياسية – اجتماعية جديدة. إن حل المشكلات أو المُشكل لا بد أن يكون من ذات الطبيعة وإلا فإننا في هذه الحالة نسابق سراب الحل ولا نعمل للوصول إلى الحل ذاته. إن أي تأخير في الوصول لحلول لمعضلات ومشكلات الحكم السياسية، تجعل منها مشكلات حلولها، لا بد أن تكون شاملة ومتعددة المداخل والأطراف.
وخلاصة القول إن العدالة والتشاركية في الحكم ليست مسألة رفاهية تتمتع بها شعوب دون الأخرى، بل هي إحدى ضرورات الحياة الجديدة، بل أضيف إلى ذلك بالقول إنها ضرورات أساسية لتحقيق الرخاء والتقدم الذي لا يمكن لأي من المجتمعات أن يكون كاملا ومعافى دونهما. إن تجارب الهند والبرازيل والهند وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا وماليزيا وسنغافورا، رغم ما قد يقال عن مشكلاتها، فإنها كلها تجارب لدول لم تدخل في سراب اكتشاف العجلة المُكتشفة في الأصل، بل إنها وجدت أن عملية البناء عليها تكفيها عن إضاعة الوقت في صراعات ومماحكات إثنو – سياسية لن تؤخر إلا من مجتمعاتها. بل إن هذه صراعات تجعل إمكانية الانطلاق صعبة بغير قدر مهم من التغيير السياسي والاقتصادي الحديث، به نخترق المستقبل ومن دونه نبقى حبيسي مشكلات وأزمات نحن الذين صنعناها بأيدينا ولم يصنعها الآخرون لنا. فقوة الدول حديثة الصعود مثل البرازيل والهند، وتعثر دول فاشلة مثل باكستان واليمن وكوريا الشمالية وغيرها، هي في تلك الانعطافة السياسية المهمة التي جعلت من الصعود الاقتصادي والثقافي فيها ممكنا.
نقلا عن الشرق الأوسط.