عرض كتاب الفقه السياسي : مقدمة الكتاب

كتاب الفقه السياسي

مقدمات تأصيلية

إن العلوم الشرعية ضرورة لازمة لنجاة العباد في الدنيا والآخرة، وشرف العلم بشرف المعلوم، وأشرف العلوم وأسماها على الإطلاق بالنسبة للفرد، علم التوحيد بأقسامه الثلاثة (الألوهية، الربوبية، والأسماء والصفات)، ثم تتفاوت درجات العلوم بقدر تفاوتها في حفظ مقاصد الشريعة الإسلامية، وإن من أسمى مقاصدها، حفظَ الضروريات لقيام الحياة الإنسانيـة، وأهمها: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال.

فمن العلوم ما يكون مقصده حفظَ الدين، كتعلم ما هو معلوم من الدين بالضرورة من علوم التوحيد وبعض علوم الفقه، والعمل بأحكام الدين والحكم به والدعوة إليه والجهاد لأجله ورد الشبهات والبدع عنه.

ومن العلوم ما يكون ضرورياً لحفظ النفس، كتحريم الاعتداء على الأنفس، والقصاص، وسد الذرائع المؤدية للقتل. ومنها ما هو ضروري لحفظ المال، كالحث على التكسب، وتحريم الاعتداء عليه، وتحريم إضاعته، وتعلم ما شرع من الحدود لحفظه، وتوثيق الديون والإشهاد عليها. ومنها ما هو ضروري لحفظ النسل، كأحكام النكاح، ومنها ما هو ضروري لحفظ العقل، كتحريم مفسدات العقل الحسية والمعنوية، ووجوب الحد على شارب الخمر.

أما أعظم العلوم بالنسبة للجماعة – مع عظم علم التوحيد وأهميته للفرد والمجتمع – فهو ذلك العلم الذي يَحْفَظُ لها هذه الضرورات كلها، الدين ومنه التوحيد، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وقد اتفق العلماء على حقيقة هذا العلم، واختلفوا في تسميته، فالماوردي الشافعي سمّاه: “الأحكام السلطانية“، وإمام الحرمين الجويني سماه: “غياث الأمم”، وابن جماعة سماه: (تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام) وابن تيمية سماه: “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” وغيرهم.

فكلٌّ مِن تسمية ابن تيمية هذه، والتي قبلها، و“غياث الأمم”، تدل على ما ذهبْتُ إليه من أن هذا العلم من أهم العلوم بالنسبة للجماعة، لأن الجهل به يؤدي إلى التصرف مع الآخرين بحماقة تضيع هذه الضرورات، أو بعضا منها.

وممن كتب في هذا العلم الذي يَحْفظ للمجتمع هذه الضرورات كلها، من المعاصرين، الدكتور يوسف القرضاوي، سماه: “السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها”، والدكتور خالد الفهد، سماه: “الفقه السياسي الإسلامي“، والدكتور خالد العنبري، سماه: “فقه السياسة الشرعية في ضوء القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة”، وغيرهم مما يدل على أهمية هذا العلم بالنسبة للجماعة.

وعليه فإن إسقاط هذا النوع من الفقه السياسي من الأمة، سواء كان ذلك بسبب إنكاره، أو بعدم تفعيله وتطبيقه، أو بفهمه خلاف الواقع، يترتب عليه مخاطر لا حصر لها تصيب من الأمة الإسلامية مَقَاِتلَ. وها نحن جميعا شيباً وشباباً، ذكوراً وإناثاً، صغاراً وكباراً، ندفع الثمن غالياً جراء تلك السياسة الدخيلة على الإسلام، التي جَرَتْ على ألسنة بعضِ الشباب المعاصرين،  حين ألقَوْا بهذا الفقه من خلف أظهرهم، وتجردوا منه، بل ذهب بعض سفهاء الأحلام، حدثاء الأسنان منهم، إلى التصريح بإنكاره، والإنكار على العلماء الكبار العاملين به، بل طعنوا فيهم وفي علمهم، فخلا الجو لهم ـ حسب زعمهم ـ ليتصدروا الفتوى بلا علم في الشريعة، وبجهل في الواقع، فضلوا وأضلوا.

وقد نقل لنا ابن القيم مؤيداً لما جرى بين شافعي وابن عقيل في تفسير قول الشافعي: “لا سياسة إلا ما وافق الشرع”.

فقال له ابن عقيل: “السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: إلا ما وافق الشرع، أي: لم يخالف ما نطق به الشرع، فصحيح. وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فَغَلَطٌ وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف فإنه كان رأياً اعتمدوا فيه مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه الزنادقة في الأخاديد، وقال:

لذا فإنه من الواجب على فريق من العلماء العاملين، أن يولوا هذا العلم في هذا الزمان أولوية خاصة، وبأسرع ما يمكن لوقف نزيف الدم، والدمار الشامل المحدق بالأمة الإسلامية. كما وعلى شباب الصحوة أن يتعلموه جنباً إلى جنب، مع علوم التوحيد، والفقه وأصولــه، والقرآن وعلومـه، وعلوم اللغـة، ولا يرغبوا عنه بحجج لا يستقيم أمرهــا، ولا تقف أمام واجب التفقه في الواقع المطلوب مـن كل فرد بحسبه.

وعليهم كذلك أن يعلموا عن أي الجهات يأخذونه ويتعلمونه، وعليهم أن لا يسلموا قيادتهم الفكرية لمفاهيم ونظرات حزب التحرير السياسية، المتأثرة بنظرية ماركس للتفسير المادي للتاريخ، ولا لمن أعجب بفكره، أو تأثر به، فإنها الطامّة الكبرى والهلاك بعينه. بل أصبحت هذه المفاهيم والنظرات السياسية التحريرية هي الحاكمة على تفكير كثير من الشباب والشياب والذكور والإناث دون شعور منهم، فخرج جل جهدهم وجهادهم عن المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، وتراهم بعد حين من بذل الجهود والطاقات، خاصة حدثاء الأسنان منهم ، يقومون بمراجعات فكرية لتصحيح الأفكار والاستغفار عن الأخطاء والأخطار.

لذا فإن التقليل من شأن هذا العلم، أو فهمه على خلاف الواقع، يضعنا أمام مواجهة غير متكافئة مع ألد خصومنا وأعدائنا، الذين يتربصون بديننا وبالضرورات الأربع الأخرى وبغيرها الدوائر، مما يعرضنا إلى سخط الله تعالى، بل قد يدفع بنا الأمر إلى أن نكون من الأخسرين أعمالاً، مع اعتقادنا بأننا نحسن صنعاً، كما حصل لنا في بعض ديار المسلمين، ولا يزال الأمر مرشحاً للتكرار.

ولكي نفقه واقعنا السياسي المعاصر، لا بد من توفر أمرين اثنين:

العمل بأحكام الشريعة الإسلامية، أولها علوم العقيدة، فأركان الإسلام الخمسة، والقيم الأخلاقية لتزكية النفس، كالعدل والصدق والأمانة والعفاف والرحمة، وغيرها.

معرفة الواقع معرفة صحيحة، بعيدة عن التضليل والخداع.

لذا فإن هذه الدراسة اكتفت ببيان بعض الموضوعات ذات العلاقة بفقه السياسة الشرعية، وتَركَتْ للقارىء الرجوع إلى مَظانّ هذا العلم لاستدراكه لمن قصّر في الإحاطة به.

ثم كشفت الدراسة عن مصدر الخطر والدمار ـ أعني اليهودية ـ الذي أصاب الأمة الإسلامية، وكشفت كذلك عن أخطر أذرعها التي ابتليت به أمتنا والعالم أجمع في واقعنا المعاصر، والذي لا يزال يقتلنا في كل مكان، ونحن لا نشعر به ولا نراه، بل ذهب بنا الأمر إلى ما هو أسوء من ذلك، حين نسبنا جميع جرائمه إلى غيره، فتوجهنا إلى محاربة هذا الغير وتركنا هذا العدو الأول والأخطر يحاربنا في ديننا، ويهدم مقدساتنا بمئات الآلاف من المساجد، ويسفك دماءنا بمئات الملايين، ويحتل أرضنا بعشرات الملايين من الكيلومترات المربعة، وينهب ثروات بلادنا بالمليارات، وينتهك أعراضنا، بل لم يكتف البعض بتجاهل هذا الخطر الاشتراكي الشرقي الداهم المتواصل – مع اعتبار الخطر الغربي – بل ذهبوا إلى التحالف معه بحجة التقاء المصالح، ولم يدروا أنها مصالح مزورة موهومة، فكانت النتيجة دماراً على دمار، وخراباً على خراب، وإفساداً في الأرض باسم الجهاد.

لهذا ولغيره، صيغت أفكار هذا البحث القليل في صفحاته، الكبير في أهميته عسى الله تعالى أن يهدي به من يشاء من عباده. والحمد لله رب العالمين.

كتبه:

عدنان عبد الرحيم الصوص

شهر تموز من عام 2006


(1)          ((الطرق الحكمية))، (ص 17-18).

Scroll to Top