هذا العنوان له صلة كبيرة بطرق البحث العلمي أو نظرية المعرفة وما شابه من أبحاث، وعلى الرغم من الفروقات بينها هذه المصطلحات، إلا أن الهدف هنا ليس حصر جميع طرق معرفة الواقع أو الحقيقة، ولكن للاطلاع على شيء كافي منها، حيث يختلف الناس في معرفة واقع اﻷشخاص واﻷحزاب السياسية على عدة أصناف، وهذا الموضوع هو تحديث على الموضوع السابق أصناف الناس في معرفة الحقيقة. ويتركز البحث هنا عن واقع الأشخاص والدول واﻷحزاب السياسية. وهو متعلق بمحاولة لتنصيف الناس في طريقتها للبحث عن الواقع أكثر من تصنيف طرق ومناهج البحث العلمي التي يجب اتباعها بحسب طريقة كل علم. ولا يشمل هنا الحديث عن الناس التي لا تهتم أصلاً بمعرفة الواقع الصحيح وتعترف أنها تريد العيش في الأوهام المريحة.
من أهم هذه اﻷصناف ما يلي:
- الصنف الأول: من يريد معرفة الواقع من الشكل الخارجي فقط، بالنظر إلى شكل الشخص ووسامته ولباسه الأنيق أو المتواضع، وإن كانت هذه تبدو من علامات الطيبة أو الصلاح، إلا أنها لا تكفي لمعرفة الواقع معرفة يقينية، وتعتبر هذه الطريقة فطرية في اﻹنسان لتساعده منذ الصغر على الاهتداء في بناء علاقاته، ويصح القول بأن اﻷصل في الأشياء والأشخاص أن ما يكون مظهره الخارجي حسناً تكون حقيقته كذلك، ولكن الاعتماد على ذلك فقط في زمن السنوات الخداعات يجعل المرء من أضل الناس.
- الصنف الثاني: من يبحث عن الحقيقة من خلال مطالعة الأقوال والتصريحات الدعائية فقط، وعلى الرغم من كونها أيضاً من مؤشرات معرفة الواقع وتدل في اﻷصل مدى صلاح الشخص من فساده، إلا أنها بدورها لم تعد تكفي لمعرفة واقع اﻷشخاص معرفة يقينية. ويكون ذلك بإمكانية الوقوع في التضليل بهذه الطريقة من جهة سهولة حدوث الكذب في التصريحات واﻷقوال، قال تعالى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة:8].
- الصنف الثالث: من يبحث عن الحقيقة بمراقبة ورؤية الأفعال فقط، ومع أنها مؤشر أقوى مما سبق على واقع اﻷشخاص، مع ذلك فهي تشوبها مشكلة وجزد الأشخاص المنافقين الذي يراءون بظاهر اﻷعمال الصالحة بهدف خداع الناس عن حقيقة واقعهم بشكل متعمّد.
- الصنف الرابع: من يبحث عن الحقيقة عبر التعرف على الأفكار والعقائد واﻷيديولوجيات السياسية، فهذا الصنف من المرجح أن يكون خطأه أقل من غيره، وهو أسلوب أكثر صواباً ودقة نسبياً، ولا يستطيع الصبر على مشاقه أغلب الناس، إلا أن له بعض العيوب، فمن الصعب يقيناً معرفة العقيدة الفعلية التي يعتقد شخص أو حزب، ففي بعض اﻷحيان يخفون عقيدتهم بالتقية، بل وحتى يؤلفون الكتب التي تخفي عقديتهم فينخدع بهم حتى بعض العلماء والباحثين، كما أن العكس يحصل في بعض الأحيان، حيث يكون الشخص تابعاً بشكل اسمي لعقيدة معينة إلا أن اعتقاده بها ضعيف ولا يتصرف وفقاً لما جاء فيها، فيحدث اللبس في معرفة واقعه.
- الصنف الخامس: البحث عن حقيقة اﻷشخاص عن طريقة تحري أوضاعهم النفسية وعلاقاتهم الاجتماعية، ويكثر استعمال هذه الطريقة عند التجار ومحترفي التسويق، كما أن لها دوراً كبيراً في معرفة الواقع السياسي لشخص أو حزب على المدى القريب، فقد تغلب الحالة النفسية من حقد أو عدواة على عقيدته الحسنة، أو بالعكس فقد تغلب الصداقة الشخصية على العقيدة الخبيثة أحياناً، وعلى ذلك يمكن البناء ولكن بحذر، ولا يمكن الاكفتاء بهذا لوحده.
- الصنف السادس: البحث في مصالح الناس والدول واﻷحزاب، وهذا أيضاً له دور كبير في معرفة الواقع والتحالفات في حالة عدم تصادمها مع العقيدة، وأحياناً يكون أقوى في بعض الظروف من العقيدة نفسها، ولا يمكن كذلك الاستغناء به لوحده.
ويظل من اﻷفضل جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشيء أو الشخص المراد معرفة واقعه، واستعمال جميع هذه الطرق وغيرها من طرق البحث العلمي، سواء التجريبي والاستقرائي والمقارنة فيما بين البيانات، مع كثرة القراءة والازداد من العلم والخبرات، وهذا ينحو بنا إلى التركيز على أهمية كثرة القراءة لمعرفة الواقع كما سيأتي في مقال قادم إن شاء الله.
ويجدر التعرف على بعض اﻷمثلة العملية عن بعض الأخطاء والخداعات التي وقعت في التاريخ المعاصر، مثل:
1- الانخداع بتظاهر مصطفى كمال أتاتورك اليهودي بالإسلام بداية أمره مما أدى لمناصرته، ثم ظهرت حقيقة إلحاده بعد فوات اﻷوان واستتباب اﻷمور له. ومثل ذلك انخداع المسلمين في روسيا بالثورة الاشتراكية بقيادة لينين، حيث أظهر لهم التعاطف مع محنتهم مع القياصرة وخدعهم بذلك.
2- الانخداع بدعوات التقريب بين السنة والشيعة وهي خليط من الانخداع بالتصريحات اللفظية وحتى العقيدة إلى حد ما، ففي الظاهر يزعم غلاة الشيعة أنهم معتدلون ويخفون عقائدهم الحقيقية مما يساهم حتى في خداع بعض العلماء.
3- الانخداع بالتحليلات السياسية التي تهمل العقائد وتقلل من شأنها وتعلي من أهمية البناء على المصالح، حيث اعتقد الكثيرون لوقت طويل وهماً أن روسيا وإيران سوف تتخليان نهاية المطاف عن اﻷسد، لتعارض بقائه مدة طويلة مع مصالحهم، ولكن هذا لم يحصل، ورغم استمرارهم بخداع أنفسهم بذلك بتأويلات مصلحية جديدة فلم يجد اﻷمر، فهذا تمسك لا يمكن تفسيره إلا بالأيدولوجيا والعقائد.
4- الانخداع بالاكتفاء فقط بمعرفة عقائد اليهود الصهاينة، ومعتقدهم الراسخ بوجوب نقض العهود وقتل المسلمين، وذلك ﻷن الظروف والمصالح الدولية والمزاج النفسي الدولي، إضافةً إلى المصالح والقوانين الدولية ورسوخ ديمقراطية العالم الغربي باعتباره الداعم المعلن ﻹسرائيل، كل ذلك قد حال أو خفف من قدرة الصهاينة على إنفاذ عقيدتهم بشكل كامل.
زاهر طلب
2/11/2021