في حلقة الاتجاه المعاكس التي بثتها قناة الجزيرة في مساء يوم 29/11/2011 حول موضوع استمرار الثورات بعد سقوط الحكام، وكان فيها ضيفين، الأول جزائري لا يؤيد الاستمرار بالثورات ويدعو لقبول الإصلاحات والمبادرات، والثاني ليبي مؤيد لاستمرار الثورات بشدة حتى لو أدى ذلك تخريب الدول وانهيارها، ولكن رغم الظاهر أنهما من اتجاهين متضادين، فقد اتفق كل منهما في نهاية الحلقة على أفكار تخدم المخطط الإيراني في المنطقة، فقد حثّ الجزائري الشعب السوري على قبول إصلاحات بشار الأسد (الوهمية) والعودة إلى البيوت وإيقاف الثورة، في حين حثّ الليبي الشعب البحريني على إكمال ثورته (الطائفية) التي رفضها نصف الشعب البحريني، فكيف حصل هذا؟ وهل كان الضيفين في اتجاهين متعاكسين حقا؟
هذه ليست المرة الأولى التي نجد فيها تحيّزا في انتقاء الضيوف في برامج قناة الجزيرة، ففي أول حلقة تبث لبرنامج الاتجاه المعاكس بعد الانقطاع، كانت حول موضوع العصابات المسلحة في سوريا، فقد اتفق آلاف المعلقين من شباب الفيسبوك على وجود تحيّز، فقد تم انتقاء ضيف قوي في النقاش مؤيد لفكرة وجود العصابات، مقابل ضيف ضعيف يدافع عن نقاء ثورة الشعب السوري من هذه التهم الكاذبة، ولكن في هذه الحلقة، فاجأني وجود تحيّز مزدوج، بحيث يؤدي رأي كل ضيف إلى ترسيخ فكرتين هما في الظاهر متعاكستين وفي الواقع متوافقين! وكليهما مبنية على مبدأ “كلمة حق يُراد بها باطل“.
لقد تكلم الضيف الجزائري برؤية ضرورة حقن الدماء وتخفيف الخسائر وحثّ الشعوب على عدم الإكثار من الثورات، والصبر حتى تتحقق مطالبها بالتدريج، وبرأيي فإن هذه كلمة حق، لكنه أسقطها في المكان الخطأ، وأرد بها الباطل، فرغم أنه أسقطها قليلا على ميدان التحرير في مصر وهذا إسقاط صائب برأيي، إلا أنه يبدو كأن المقصود منها هو نظام الجزائر المدافع بشدة عن نظامي القذافي والأسد، كما أنه أسقطها صراحة على نظام القذافي، ثم كانت المأساة في آخر الحلقة أن قال بكل علانية وبلا مواربة، بأن على الشعب السوري أن يعود لبيوته ويقبل بإصلاحات بشار، وهي من المعروف أنها إصلاحات وهمية حقا وفعلا.
إن هذا المبدأ الذي قال به الضيف الجزائري هو من مبادئ الشريعة الإسلامية الحنيفة التي تحرص على رفع الظلم عن الشعوب، وفي نفس الوقت تعطي أهمية كبيرة للاستقرار وحقن الدماء، ولا تجيز الثورة على الحكام إلا في حالة الكفر البواح الصريح مع وجود البرهان على ذلك، وفي حالة القذافي فقد اتفق العلماء والمفتين في داخل وخارج ليبيا على أنه كافر وخارج عن الملة، فقد حرّف القرآن وألغى دور السنة النبوية في التشريع وغير ذلك من كفر صريح، وهنا نجد الطامة الكبرى بأن الضيف الجزائري يترحّم على القذافي ويصفه بأنه مسلم!! ويطبق على نظامه الذي قتل شعبه رؤية وجوب القبول بالإصلاحات، ثم يطبق نفس الرؤية على نظام الأسد الذي هو أيضا نظام كافر ومخادع وكذاب، نظام يقتل شعبه ويكذب بوعود إصلاحية مستحيلة، لأن أقل إصلاح سيؤدي إلى سقوطه.
في المقابل فإن الضيف الليبي (الذي كان بالمناسبة شبه نسخة عن القذافي في روحه الفكاهية) تحدث عن الثورة الفرنسية وأنها كنموذج ظلت مستمرة عشرة سنوات حتى أسقطت النظام الملكي من جذوره، وهو يتحدث بعقلية الثورات الماركسية الجارفة، ويستخدم مصطلحات الماركسية في التفسير المادي للتاريخ مثل كلامه عن الإقطاع باعتباره المرحلة الثانية من التاريخ، وقام بتطبيق نظريته على المجلس العسكري المصري، وطالب بإسقاطه من جذوره، ثم تطور إلى أسوأ من ذلك، حيث وصف النظام الملكي الأردني بأنه ليس فقط يجب إسقاطه بل يجب سحقه، وسخر من مطالبته للأسد بالتنحي، بدلا من أن يشكره على شجاعته كونه أول زعيم عربي يفعل ذلك في التاريخ، وفي نفس الوقت لم يوجه دعوة للثورة على النظام السوادني الذي قتل عشرات الآلاف في دافور، وتطرّق بشكل عابر لحكم العسكر الشيوعيين في الجزائر الذين دعموا القذافي ويدعمون الأسد للعظم.
كما إن في تركيزه على الثورة الفرنسية يتجاهل النموذج الثورة على النظام الملكي البريطاني، الذي أبقى الملكية وحولها تدريجيا إلى ملكية دستورية، وهو نموذج سائد في كثير من الدول الغربية، حيث تحولت الملكيات إلى جنات للديمقراطية مع المحافظة على أكبر قدر من الاستقرار وحقن الدماء، ومن أهم الأمثلة على الملكية الدستورية هي دول كبرى ومتقدمة مثل هولندا وإسبانيا والسويد والنرويج وكندا واليابان وغيرها.
وفي نقاشي مع أحد الأصدقاء حول نزول ثوار مصر وإعادة الثورة مرة أخرى على المجلس العسكري، والخلاف حول ما إذا كان المجلس العسكري قد التف على الثورة وأعاد نظام مبارك، أم أنه حقق بعض إهدافها بإقامة انتخابات وتعديلات للدستور وتعهد بتسليم السلطة لحكومة ورئيس منتخب، فقد أجبت في نقاشي بأن الإسلام لا يجيز الثورة على حاكم حتى لو كان ظالما إلا أن يكون نظام كافرا كفرا صريحا، وهذا لا ينطبق على مجلس مصر العسكري، كونه حتى لو كما يعتبر البعض أنه التفّ على الثورة فهو لم يلتف على كل مطالبها، وهو ملتزم بالانتخابات وبنزاهتها، وبالسماح لمراقبين دوليين بمراقبتها، وإن الإسلام يقر بقاء الحكام المصلحين، ويقر بقاء حكام الدول التي فُتحت لو أنهم أسلموا.
ولأن نتيجة حلقة الاتجاه المعاكس كانت في الجهتين تؤيد مصالح المخطط الإيراني، ولأن إيران فرحت كثيرا ببعض الثورات العربية، ثم ساهمت بقمع ثوارت عربية أخرى، وبناء على حالة ونسبة الحريات في كل بلد عربي وموقفه من المخطط الإيراني والصهيوني، الذي يعتمد أولا لإسقاط الدول في قبضة إيران ليس على الاحتلال العسكري الخارجي، بل بواسطة اصطناع ثورات شعبية كاذبة مثل ثورة البحرين، فقد قمت في بداية الثورات العربية بوضع قائمة بالدول التي تجب فيها الثورات، وهي الدول الحليفة لإيران والتي فيها قبضة أمنية حديدية موروثة من طريقة الحكم الشيوعية والستالينية، وهي سوريا والسودان والجزائر وليبيا وموريتانيا وحكومة حزب الله في لبنان وحكومة المالكي في العراق، ويجب أن تكون الثورات فيها جذرية، سواء كانت دفعة واحدة مثل ليبيا أو بالتدريج مثل ما أتوقع أن تكون الجزائر، وذلك بحسب حالة كل دولة، وحتى في النموذج الليبي الأكثر جذرية، فقد اضطروا للإبقاء ولو مؤقتا على بعض مؤسسات وشخصيات من النظام السابق منعا لغرق البلد في الفوضى.
ووضعت قائمة أخرى بالدول التي ليس من مصلحة شعوبها القيام بثورات، لأن المكاسب من الثورة أقل من بقاء الاستقرار، كما أن أضرار الثورات عليها أكبر من ضرر بقاء أنظمتها، وأقترح من أجل نيل مكاسب الثورات والحرية مع إبقاء مكاسب الاستقرار، ومن أجل تجنب أضرار الثورات مع التخلص من أضرار بقاء الفساد، يجب على الحراك الشعبي فيها بالإصرار على الإصلاح ورفض إسقاط الأنظمة والدعوات المشبوهة لذلك، وهي عموم الأنظمة الملكية والخليجية، وخاصة أنه يوجد فيها هوامش متفاوتة من حرية التعبير والصحافة.
وهناك قائمة ثالثة جديدة من دول ذات توجه في السياسة الخارجية ضد المشروع الإيراني، وتسمح بتعدد الأحزاب السياسية والانتخابات، ولكنها فاسدة جدا وذات قبضة أمنية شديدة، مثل مصر واليمن، فهذه الدول على شعوبها الاكتفاء بما قامت به من ثورة، من أجل المحافظة على إيجابية السياسة الخارجية، وعدم جر البلاد إلى الفوضى، وتفويت الطريق على الخلايا الإيرانية النائمة من أن تسرق الثورات وتقيم أنظمة تابعة لولاية الفقيه الشيطانية.
وبالعودة إلى السؤال في المقدمة “هل كان الضيفين في اتجاهين متعاكسين حقا؟” فإذا كان فيصل القاسم أو قناة الجزيرة قاصدين لهذا الاختيار، فهو أمر خطير يضع مهنية الجزيرة على المحك، حيث لا يمكن تسمية هذا بالاتجاه المعاكس بل هو الاتجاه الموافق أو الوجه الآخر للرأي الأول، وإذا لم يكن ذلك مقصودا، فإن الجزيرة أيضا تتحمّل مسؤولية تضليل الشعوب العربية إعلاميا، لأن المشاهد إما أن يقتنع بالرأي الأول أو يقتنع بالرأي الثاني، فهنا هي وضعت رأيين مضللين متفقين في الجوهر، ولم تضع بالمقابل رأيا واحدا صحيحا.