مقدمة :
إن من الأهمية بمكان ضرورة التعرض لموضوع العلاقة بين الجيش والسياسة والسلطة ، في الدولة الديمقراطية الحديثة ، والدور الحيادي الذي يلعبه الجيش في عملية التنافس السلمي على السلطة واقتصار هذا الدور في المحافظة على كيان الوطن والدولة من التهديدات الخارجية .وكان لا بد من مقارنة هذا مع الدور الذي تلعبه المؤسسة العسكرية السورية، في ظل ثورة الحرية والكرامة التي يخوضها الشعب السوري العظيم ، بكافة قواه ومكوناته وفئاته لإسقاط نظام الدم والقهر والغلبة ، وبناء نظام سياسي وطني ديمقراطي مقدمة لبناء دولة وطنية ديمقراطية مدنية .
دور الجيش في الدولة الديمقراطية الليبرالية :
من المعروف أن الجيش في النظام السياسي الديمقراطي مؤسسة سيادية كغيرها من المؤسسات السيادية المتعددة المنصوص عليها دستورياً، كالبرلمان أوالقضاء أورئاسة الدولة … ، وهي المؤسسة التي تتمتع بالاستقلال والحياد التام تجاه النظام السياسي القائم (الحكومة) .
والدولة الديمقراطية لا تعرف ظاهرة الانقلابات العسكرية ، أو ظاهرة تدخل الجيش في الشأن السياسي ، من خلال الانتصار لفريق سياسي ضد فريق آخر خلال عملية التنافس السلمي على السلطة ، كون السياسة في النظام الديمقراطي مجرد لعبة مدنية صرفة ، ومجال مفتوح لجميع المواطنين ، وحق من حقوقهم المدنية التي كفلها القانون والدستور سواء من حيث تشكيل الأحزاب السياسية والانتخاب والترشح في الانتخابات العامة .
والجيش ركن سيادي من أركان الدولة الديمقراطية الحديثة ، وليس أداة بيد السلطة الحاكمة ، ولا يمارس إلا المهام المقررة له دستورياً ألا وهي : حفظ كيان الوطن والدولة من الأخطار الخارجية .
والتاريخ السياسي للدول الديمقراطية الأوربية لم يعرف ظاهرة الانقلابات العسكرية ، أو تدخل الجيش في الشؤون السياسية من حيث فرض حكومات أو إسقاطها ، ولم يعرف انتشار وباء الحزبية فيه ، ولا يعتمد إلا الكفاءة في العمل العسكري ، وبعبارة موجزة هو : جيش محترف دون لوثة سياسية .
ولعل المدخل الأول لفهم الوضع الاعتباري للجيش في الدولة الديمقراطية الليبرالية هو ضرورة التمييز القاطع بين الدولة والسلطة كما جاء في الفكر السياسي الحديث (والذي تعرضنا له سابقاً بشيء من التفصيل في بحث مستقل حمل عنوان : الدولة والسلطة – أية علاقة؟ ).
تعريف الدولة :
هي الكيان السياسي للشعب ، والمتجسد في نظام مؤسسي يعبر عن ماهية هذا الشعب ، ويحقق مبدأ سيادته على نفسه وأرضه ومنافعه ( هي الثابت الوطني) .
تعريف السلطة :
هي تعبير عن توازن القوى السياسية والاجتماعية في فترة زمنية محددة ، والمنتمية إلى حقل الممارسات السياسية (هي المتغير الوطني) .
قواعد النظام الديمقراطي وعلاقتها بالمؤسسة العسكرية :
إن هناك قاعدتان أساسيتان نرى ضرورة الإشارة إليهما بشيء من التفصيل نظراً لتلازمهما العضوي مع موضوع بحثنا هذا ، والذي ينعدم اشتغال وإثمار النظام الديمقراطي إلا بهما :
القاعدة الأولى :
وهي التي تقوم على التمييز القاطع بين السيادة والسياسة .
تعريف السيادة :
هي مجال التعبير عن كيان الأمة والدولة ككل ، والتي يشارك المواطنون جميعاً في صنعها من خلال إقرار الدستور والقانون وانتخاب نواب الشعب ، وهي الأمور التي لا تخضع للمنافسة السياسية بعد إقرارها ، وإنما تخضع للإجماع الشعبي العام .
تعريف السياسة :
هي التي يتحقق فيها مبدأ المشاركة السياسية من خلال المساهمة في إدارة الشأن العام ، وصنع القرار وإدارة السلطة ومراقبتها .
وبناءًَ على استقلال الموضوع السيادي الكياني عن الموضوع السياسي التنافسي لهذا يحظر على السيادي التدخل في السياسي أو العكس ، وهذا ما يفرض على الجيش التزام موقف الحياد تجاه الصراع السياسي ، باعتباره مؤسسة سيادية طبقاً للعقد الاجتماعي الدستوري.
القاعدة الثانية :
إن النظام السياسي الديمقراطي يقوم على قاعدة تحييد العنف من الحياة السياسية واتباعه الأسلوب السلمي في عملية التغيير السياسي والاجتماعي ، كونه النظام المولد لآليات التغيير الديمقراطي والمتمثلة بالعملية الانتخابية الدورية الموصلة للتداول السلمي على السلطة ، وفي ظل هذا النظام لا تحتاج القوى السياسية أصلاً إلى التوسل بالانقلابات العسكرية طريقاً للوصول إلى السلطة ، حيث لا يوجد إلا طريق واحد هو : طريق صندوق الاقتراع .
إن الدولة الديمقراطية الحديثة تحتكر العنف (ماكس فيبر) ولكنه العنف غير الثوري ، وغير المتجه صوب الداخل الوطني وأهله ، وعليه تكون وظيفة الجيش باعتباره مخزون القوة هي :
الدفاع عن السيادة العليا للدولة تجاه الخارج أولاً ، والدفاع عن سيادة القانون تجاه الداخل ثانياً ، وذلك بتفويض من السلطتين التشريعية والقضائية ، وباشتراطات ثلاث :
– أن يكون لموضوع محدد المعالم (تحريرياًَ ) وليست لمواضيع متعددة تحددها السلطة .
– أن يكون لمنطقة جغرافية محددة (تحريرياً) وليست لعموم جغرافية البلد وجهاته الأربع .
– أن يكون لفترة زمنية محددة (تحريرياً ) وليست على مدى عمر النظام الحاكم .
ولعل أم الشروط تمتع السلطة التنفيذية (الحكومة) بالشرعية الديمقراطية الممنوحة لها دستورياً في ظل نظام ديمقراطي برلماني ليبرالي ، وليس في ظل نظام ديمقراطي شعبوي تسلطي .
الحالات الثلاث للعلاقة بين الجيش والسياسة والسلطة في النظم الاستبدادية:
توجد على أرض الواقع السياسي العربي ثلاث حالات ، تمثل العلاقة الشاذة بين الجيش والسياسة والسلطة :
الأولى : من خلال سيطرة السياسي على الشأن العسكري .
الثانية : من خلال سيطرة العسكري على الشأن السياسي .الثالثة : من خلال تحويل الجيش الوطني إلى جيش أهلي .
الحالة الأولى : جيش السلطة الحاكمة :
يكون الجيش في هذه الحالة أداة بيد السلطة الحاكمة المستبدة ، باعتبارها السلطة المهيمنة على كافة المؤسسات السيادية وفي مقدمتها مؤسسة الجيش، من خلال تسييسه وتحزيبه بسياسات الحزب الحاكم أو أيديولوجيته الحاكمة وإدخال اللوثة السياسية إليه ، وإحكام السيطرة عليه بواسطة ما يسمى بــ ( مكتب التنظيم العسكري للحزب) الذي قد يترأسه مدني ، وتخليق ما يسمى بالجيش العقائدي المؤدلج ، المدعي مهمة الحرب والإعمار معاً ، والمعتمد على الولاء الحزبي للفرد العسكري أكثر من اعتماده الكفاءة العسكرية (الولاء أولاً والكفاءة ثانياً !!)، وتنصب مهام الجيش في هذه الحالة على :
الحفاظ على السلطة – إرهاب المجتمع – قمع المعارضة
وقد سادت حالة سيطرة السياسي على الشأن العسكري لدى كافة الأنظمة السياسية المتسربلة بالأيديولوجيات الشمولية :
– منظومة الدول الاشتراكية (سابقاً) تحت دعاوي أيديولوجية طبقية .
– إيران الخمينية : تحت دعاوي أيديولويجة دينية – ولاياتية.
الحالة الثانية : سلطة الجيش الحاكم :
في هذه الحالة تصبح مؤسسة الجيش نفسها سلطة من خلال مصادرتها والسطو عليها بتوسل الانقلاب العسكري ، وتحول قياداته العسكرية إلى نخب حاكمة ترتدي الزي المدني ، وتتجسد بذلك سيطرة العسكري على الشأن السياسي وانقلاب الوظيفة الأصلية للجيش والتي هي صون السيادة الوطنية إلى وظيفة سياسية تُنتقض فيها هذه السيادة.
إن الهدف الأساسي من الاستيلاء على السلطة في هذه الحالة هو الحفاظ على بقاء الحكم العسكري تحت واجهات شتى وديكورات سياسية متنوعة : انتخابات أحزاب وزارة الداخلية ، جبهة وطنية صورية يقودها حزب السلطة ، تقييد الحريات والإعلام ، قانون الطوارئ ، المحاكم الاستثنائية ، عدم الفصل بين السلطات ، أمننة المجتمع ….. ويمكن أن تدار هذه السلطة بطريقتين :
– الإدارة المباشرة للسلطة من خلال حكم عسكري ، بالزي المدني أو العسكري .
– الإدارة غير المباشرة للسلطة من وراء ستار ، ووضع شخصيات صورية في الواجهة.
والحالة الثانية هذه (سلطة الجيش غير المباشرة ) هي التي غَلبت على المشهد السياسي العربي ، والتي سادت بلدان اليسار (مصر – العراق – سورية – الجزائر – ليبيا – اليمن الديمقراطية ) ، والتي عمّت كل من (فيتنام – كوريا الشمالية – كمبوديا – كوبا – تركيا – البرتغال – اليونان – إسبانيا – البرازيل – المكسيك – بعض الدول الأفريقية – بعض دول أمريكا اللاتينية وخاصة خلال مرحلة الحرب الباردة بين القطبين الرأسمالي والشيوعي .
مع الإشارة إلى أن العديد من الدول المذكورة قد سارت باتجاه التحول الديمقراطي باستثناء كل من (سورية – إيران – كوريا الشمالية) على صعيد القارة الآسيوية ، تحت ذرائع رسالية شمولية : قومية – دينية – طبقية – على التوالي .
الحالة الثالثة : الجيش العصبوي :
وهي الحالة المنتشرة في دول المجتمعات التعددية غير المندمجة من حيث الأعراق والأديان والطوائف والقبائل ، لمجتمع ما قبل إقامة الدولة الحديثة والتي تنعكس سلباً على مؤسسة الجيش في ظل نظام سياسي استبدادي مهيمن على السلطة ، ويفرض آراءه الأيديولوجية والسياسية الأحادية على الجميع والذي يعمل جاهداً على إعاقة تحقيق الانصهار المجتمعي ، من خلال اتباعه لسياسة فرق تسد بين المكونات المجتمعية والقوى السياسية المتعددة .
في هذه الحالة يتكيف الجيش ذاتياً مع المجتمع الرخو الاندماج والتي تميل صراعاته إلى التعبير عن نفسها من خلال الاقتتال الأهلي ويغدو الجيش جيش العرق أو جيش المذهب أو جيش الطائفة، ويتجه للتذرر والتشظي على مقاس المجتمع الأهلي وانعكاساً له – أي على مقاس عصبياته المتدافعة – ويتحول إلى مليشيا بقوام عصبوي، وهنا يتم الانتقال من احتكار الدولة للعنف تجاه الخارج إلى خصخصة العنف تجاه الداخل (أهلنته).
وأخيراً / عندما تنفلت أمور الوطن وتتدهور ، يكون الجيش بالضرورة منحازاً وأداة بيد فريق سياسي أو عرقي أو مذهبي أو طائفي أحادي ، ضد فريق آخر ، نتيجة لانفراط عُقد الوطن – ولا ندري إن كانت حالتنا السورية في بداية هذا السيناريو أم في أتونه ، والطامة الكبرى تأتي عندما تتسلح البنى العصبوية المتعددة وتأخذ شكل جيوش ميليشيوية خاصة ، حينها تتعرض الوحدة الوطنية والترابية للتقسيم ، وبدء الذبح على الهوية ، عندها يكون الولاء الوطني قد أضحى في مهب الريح ( لبنان – الصومال) وقانا الله شرها .
وننوه إلى أن الحالات الثلاث المذكورة سابقاً ، لا تمثل كل منها حالة منفصلة عن الحالات الأخرى بكافة تفاصيلها وتضاريسها ، بل قد تتداخل وتتفاعل فيما بينها ، وتتطور من حالة إلى أخرى ، وذلك تبعاً للحراك الاجتماعي ، وتوازنات القوى بين السلطة والمعارضة.
أسباب اضطراب العلاقة بين الجيش والسياسة والسلطة :
إن عدم قيام علاقة سوية بين الجيش والسلطة في الوطن العربي لا يعود لمجرد غريزة شهوانية سلطوية عند بعض العسكريين العرب فحسبُ بل إن هناك أسباب موضوعية تكمن وراءها:
الأول : عدم وجود دولة حديثة :
إن البلدان العربية لم تشهد قيام دولة وطنية حديثة بالمعنى القانوني المتعارف عليه في الفكر السياسي الحديث (دولة مؤسسات) ، بل بقيت دولة هجينة مركبة ، بجوهر داخلي سلطاني موروث ، وذات قشور حداثية موروثة عن الإدارة الاستعمارية السابقة ، لهذا كان المطلب الأول لأهل الديمقراطية والساعين إليها ، هو بناء دولة وطنية ديمقراطية مدنية ، باعتبارها المدخل لتأسيس علاقة صحيحة بين الجيش والسلطة .
الثاني : ضعف الطبقة الوسطى :
من المعروف أن الطبقة الوسطى هي حامل المشروع الوطني الديمقراطي كما تبلور في الغرب تاريخياً ، حيث كانت هي الطبقة التي ُتفكر وتَكتب وتُنتج وتَتَمرد على الأوضاع القائمة ، وتقود النضال الديمقراطي ضد القهر والاستبداد .
في حين أن الطبقة الوسطى العربية بأحزابها وقواها السياسية وقياداتها الشعبوية ، تتسم بالضعف والهزال ، لهذا بدت المؤسسة العسكرية هي الأكثر تنظيماً وانضباطاً وجاهزية على تولي وتسيير شؤون الحكم .
الثالث : المنزع الاستعجالي :
من المعلوم أن الفكر الانقلابي الثوري كان فكراً متجذراً ومتأصلاً في أغلب أدبيات الأحزاب القومية والإسلامية واليسارية ، خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، وفي مقدمتها فكرة الاستيلاء على السلطة ، بالأسلوب الثوري المعهود (العنف) ، وذلك بالتوازي مع الموجة الثورية التي عمت الكثير من بلدان العالم خصوصاً عقب الحرب العالمية الثانية.
ولقد برزت أسباب عدة دفعت الثوريين العرب إلى القفز على مركب السلطة ، يأتي في مقدمتها ضرورة وضع الأطروحات الفكرية والبرامج السياسية لأحزابهم موضع التنفيذ ، ونكبة فلسطين عام 1948 والاحتجاجات الشعبية المستمرة على الأوضاع القائمة المتعفنة ، وفي مقدمتها المسألة الاجتماعية والعدل الاجتماعي ، وإرضاء النزعة التسلطية لقادة هذه الأحزاب، وعدم استعدادهم لتحمل تبعات ومشاق النضال الشعبي ونَفسِهم النضالي القصير من حيث التثقيف والتنظيم والإعداد لأفراد الشعب ، علاوة على حمل هذه الأحزاب أهدافاً كبرى ورفعها لشعارات عظيمة تنوء بحملها والتي تريد تحقيقها دفعة واحدة ،(الوحدة العربية ، فلسطين الاستقلال ، الديمقراطية ، التنمية ، التجدد الحضاري ، العدل الاجتماعي ) والتي لم تجد سبيلاً لتحقيقها غير ركوب مركبة السلطة اختصاراً للزمن ورفع شعار – لا صوت يعلو فوق صوت المعركة- للإلتفاف على معركة الديمقراطية باعتبارها أم المعارك والبوابة الرئيسية لتحقيق كافة الأهداف – الهدف والوسيلة معاً – .
وقد كانت القوى القومية من أوائل القوى التي استطاعت الاستيلاء على السلطة من خلال البيان رقم (1)، والمتبدية للعيان من خلال كثرة انقلاباتها العسكرية تحت ذرائع شتى ، والتي أطلقت على نفسها لقب الأنظمة الثورية ، والتي بلغت ذروتها خلال فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي ( مصر – سورية – العراق – الجزائر – ليبيا – اليمن الديمقراطي ) ، بل قد تم القيام بالكثير منها داخل الفريق العسكري – السياسي الواحد ،(البعث السوري مثلاً) الذين تنطبق عليهم مقولة صاحب المقدمة ابن خلدون (المُلك – الحُكم – لمن يدوس الرقاب ويقدع الأنوف) وذلك في معرض تحليله لأسباب قيام الدول وسقوطها مع عدم تبنيه لها طبعاً.
وقد أخذت الانقلابات العسكرية عند الثوريين العرب مسميات شتى : الثورة – التصحيح – الخلاص – الإنقاذ ….
مع الإشارة إلى أن الخلل القائم في العلاقة ما بين الجيش والسياسة والسلطة لم يكن مقتصراً على القوى القومية وحدها ، بل تعداها إلى القوى اليسارية والإسلامية ( اليمن الديمقراطي – السودان ) – من لم يكن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر –
سورية والوحدات العسكرية الطائفية :
عقب موقعة ميسلون الاستشهادية بقيادة البطل (يوسف العَظْمة) ، وسقوط الحكم العربي الفيصلي بعد احتلال القوات الفرنسية الغازية لدمشق التي قادها (غورو) عام 1920 م ، وتفكك وانحلال الجيش العربي الوليد ، عملت سلطات الانتداب الفرنسية على تأسيس قوة عسكرية محلية ، تهدف إلى قمع أية ثورات أو انتفاضات شعبية يقوم بها الشعب السوري ضد انتدابها .
وقد قامت الإدارة الاستعمارية بتأسيس هذه القوة على المحاصصات الدينية والطائفية والعنصرية ، من خلال استحداث وحدات عسكرية سورية (أقلوية) تابعة لجيش الشرق وتحت القيادة الفرنسية المباشرة ، والتي كانت خليطاً من الأقليات المذكورة والمصممة خصيصاً لكسر الهيكل المجتمعي التي تقوم عليه وحدة الشعب أولاً ووحدة الجيش ثانياً ، وعلى الشكل التالي:
– فوج الأكراد – فوج الدروز – فوج العلويين – قوة عشائرية (شوايا)
– وحدة الخيالة الجركسية – قوة إسماعيلية
– الضباط المنتمون للأسر الثرية والبارزة في المدن ، من الملل والنحل والأعراق كافة ، والمتخرجين في المعهد العسكري في حمص .
– كافة الأقسام المحاسبية من مهام الطوائف المسيحية
ولادة الجيش العربي السوري :
في الوقت الذي بدأت فيه المعركة الوطنية الاستقلالية ، بادر عدداً مهماً من الضباط السوريين العاملين ضمن وحدات جيش الشرق إلى ترك وحداتهم ، والالتحاق بقوات الدولة السورية الناشئة ، حيث قاموا بتشكيل نواة الجيش العربي السوري ، وتولوا قيادته وتدريب منتسبيه الجدد بدءاً من عام 1946 م.
مع التذكير أن عدداً من هؤلاء الضباط قد تركوا وحداتهم العسكرية الطائفية والتحقوا بالمقاومة الشعبية اثناء اشتعال الثورة السورية عام 1945 م لطرد المحتل الفرنسي ، حتى أن بعض طلاب الضباط في المدرسة الحربية في حمص قد تركوا تدريبهم العسكري ، واتجهوا لقتال العصابات الصهيونية في فلسطين .
ومن المعلوم أن الحكومة السورية قامت باستلام كافة الثكنات والموانئ والمطارات من السلطات الفرنسية نهاية عام 1945 م ، فأضحى الجيش منذ ذلك الحين جيشاً وطنياً موحداً تابعاً لوزارة الدفاع السورية ، والتي لم تعُدْ تشكيلاته وتراتيباته تُبنى على أية محاصصات عرقية أو دينية أو طائفية أو حزبية .
إن الجيش في ظل الاستقلال الوطني يكون دائماًً بوتقة الصهر والاندماج خاصة في المجتمعات التعددية ، وقد كان الجيش العربي السوري ومنذ تأسيسه مثالاً ومحوراً لهذا الاندماج ، وذلك نتيجة لدوافع ثلاث:
الأول : إن تأسيس هذا الجيش قد جاء بشكل متزامن مع قيام نظام سياسي ديمقراطي في القُطر ، باعتباره النظام الذي يوفر كافة الحقوق المدنية والمساواة بين جميع المواطنين ، بغض النظر عن انتماءآتهم السياسية أو منابتهم الاجتماعية سواءً في الحياة العسكرية أو المدنية ( مبدأ المواطنة) .
الثاني : تعبيراً عن رفض أفراد الجيش الوطني الجديد للوحدات العسكرية التحاصصية التي أسسها الانتداب ، والتوق إلى خلق جيش محترف ومندمج في ظل بلد موحد .
الثالث : اتباع نظام الجندية الإلزامية العامة ، أدى إلى أن أصبح الجيش مدرسة الحوار والتعارف والتثاقف بين جميع عناصره.
ولكن : بعض القوى المتنفذة داخل المؤسسة العسكرية ، والمدفوعة بشهوة السلطة قد لعبت أدواراً هدامة خاصة بعد العهد الوحدوي وذلك من خلال إدخال اللوثات الطائفية والسياسية إليها واستثمارها واعتماد الولاء الطائفي والحزبي الضيق بدلاً من الكفاءة والولاء الوطني الواسع (الولاء الفرعي أولاً والولاء الوطني ثانياً !!!).
الانقلابات العسكرية في سورية :
تعرضت البلدان العربية خلال العقود الماضية لعشرات الانقلابات العسكرية الناجحة ، الهادفة إلى إسقاط أنظمة سياسية مغايرة ، أو إقصاء بعض اعضاء الفريق السياسي – العسكري الواحد ، والتي بدأت في العراق من خلال الانقلاب العسكري الأول عند العرب والذي قاده الفريق (بكر صدقي) ضد حكومة ياسين الهاشمي في 1936 م .
وقد تعرضت سورية إلى (9 ) انقلابات عسكرية خلال الفترة الممتدة من 1949 – 1970 م ، حسب الجدول التالي :
رقم الانقلاب |
قائد الانقلاب |
تاريخ الانقلاب |
الأوضاع المترتبة على الانقلاب |
الأول |
العميد / حسني الزعيم |
30/3/1949 |
الإطاحة بالحكم الدستوري النيابي |
الثاني |
اللواء / سامي الحناوي |
14/8/1949 |
الإقصاء ضمن المؤسسة العسكرية الواحدة |
الثالث (التمهيدي) |
العقيد / أديب الشيشكلي |
19/12/1949 |
الإقصاء ضمن المؤسسة العسكرية الواحدة |
الرابع (النهائي) |
العقيد / أديب الشيشكلي |
19/11/1951 |
الإقصاء ضمن المؤسسة العسكرية الواحدة |
الخامس |
النقيب / مصطفى حمدون |
25/2/1954 |
إعادة الأوضاع الدستورية والبرلمانية |
السادس |
العقيد / عبدالكريم نحلاوي |
28/9/1961 |
الإطاحة بالوحدة المصرية- السورية |
السابع |
ضباط بعثيون وناصريون ومستقلون |
8/3/1963 |
الإطاحة بالحكم الانفصالي – البرلماني |
الثامن |
ضباط بعثيون |
23/2/1966 |
الإقصاء ضمن الفريق العسكري -السياسي الواحد |
التاسع |
اللواء / حافظ الأسد |
16/11/1970 |
الإقصاء ضمن الفريق العسكري – السياسي الواحد |
وإذا كان البعض يشيد بالأدوار الكبرى للمؤسسة العسكرية السورية في مضمار عملية الدمج القسري والتحديث المادي وإنجازاتها المتحققة في ظل حكم نخبها العسكرية – البعثية ، فهذا ما نقره ونعترف فيه .
ولكن الآثار الجانبية لها كانت أكبر بكثير من هذه الإنجازات :
عسكرة السلطة – تصدع الوحدة الوطنية – تسييس الجيش – إلغاء الحياة السياسية – أمننة المجتمع – إلغاء الحريات – قوانين الطوارئ – عدم الفصل بين السلطات الثلاث – تقنين الفساد ورعايته – إهدار كرامة الناس – التحالف مع البرجوازية الطفيلية – سوء توزيع الدخول – استمرار احتلال الجولان – حصار المدن والبلدات والقرى … القتل – الاعتقال – التدمير ….. أين التنمية ؟ … أين الوحدة العربية ؟……… أين فلسطين ؟ ……….
الفترة الذهبية في الحياة السياسية السورية :
لقد توصلت كافة القوى السياسية السورية إلى قناعة مفادها ، أن الانقلابات العسكرية ومهما تحقق من إنجازات تبقى عاجزة عن ضمان الحريات العامة ، وسيادة القانون ، حيث أن بلدنا سورية ذات التعددية المجتمعية والسياسية لا يمكن أن تُحكم أو تُدار من قبل مُكون اجتماعي واحد أو قوة سياسية واحدة ، بل تحتاج جميع هذه المكونات والقوى .
وطبقاً للقناعة هذه ، فقد عاشت سورية فترة ذهبية من حياتها السياسية لا تضاهى بالمقارنة مع جوارها الإقليمي والعربي للفترة من عام 1954-1958 م من خلال تداعي وتوافق كافة القوى الوطنية السياسية على بناء نظام سياسي ديمقراطي مقدمة لبناء دولة وطنية ديمقراطية مدنية .
وقد عاش السوريون فعلاً في كنف حياة دستورية وبرلمانية ، حيث كانت هي الأولى والوحيدة عربياً وإقليمياً في ظل استقلال وطني حقيقي ، مع كل ما تتضمنه من حقوق وحريات : حرية تشكيل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي ، حرية الرأي والتعبير ، حرية الصحافة ، حرية الطبع والنشر الاعتراف بالمكونات الخصوصية للشعب ، الفصل بين السلطات ، وجود دستور توافقي مُعدٌ من قبل مجلس تأسيسي منتخب من خلال الاقتراع العام (دستور عام 1950 م) ، التداول السلمي للسلطة عبر صندوق الاقتراع وحيث لا وجود لقانون الطوارئ أو مُعتَقلي الرأي إطلاقاً.
وفي ظل العهد الديمقراطي المذكور ، أسقط السوريون العديد من الأحلاف الاستعمارية – حلف بغداد – وقاوموا التهديدات الدولية والضغوط الإقليمية المتعددة من جهاتها الأربع ، والتي كان الرد الشعبي المباشر عليها قيام الوحدة المصرية – السورية .
المؤسسة العسكرية في اسرائيل :
من النافل القول أن المؤسسة العسكرية الصهيونية هي مؤسسة إنتاج النخب السياسية الإسرائيلية منذ قيامها وحتى الآن ، إلا أن القانون الإسرائيلي يحظُر على العسكري تولي أي منصب سياسي أو حزبي دون استقالته أو تقاعده من منصبه العسكري .
ورغم أن إسرائيل خاضت حروبأ عديدة داخلية وخارجية ضد العرب منذ قيامها عام 1948 م ، إلا أنها لم تشهد أية انقلابات عسكرية ، على الرغم من كونها قلعة عسكرية بامتياز ، وذلك عائد إلى عدم تدخل الجيش في الحياة السياسية الإسرائلية دستورياً أولاً ، واتباع أسلوب التغيير السلمي الديمقراطي الحداثي ثانياً ، وعدم السماح للأحزاب السياسية بالعمل داخل الجيش الإسرائيلي بموجب القانون ثالثاً ، وهذا مما يحول دون إفساد حياتهم السياسية.
مع التأكيد أن الممارسة الديمقراطية في الكيان الصهيوني تقتصر على بني صهيون وفيما بينهم فقط واتباع أسلوب التمييز العنصري ضد العرب أصحاب الأرض الأصليين (الكيل بمكيالين) .
أسباب نُدرة الانقلابات العسكرية في المرحلة الحالية : –
أن الاتجاه الغالب على الساحة السياسية العربية اليوم هو ندرة انقلاباتها العسكرية ، وخاصة لبلدان اليسار ، حيث سقطت بعض أنظمتها الاستبدادية بفضل الثورات الشعبية الديمقراطية السلمية (تونس – مصر) ، في حين ظلت بعض أنظمتها تتمتع بالبقاء والصمود نتيجة تلاشي دور الجيش في إحداث التغيير ، وذلك لأسباب عدة :
– قيام أنظمة الحكم بتكوين مليشيات خاصة بها – قوات النخبة – تستطيع من خلالها التحكم بمسار الجيش ، وتكون مهمتها الأساسية الحفاظ على النظام القائم ويتراءى ذلك من خلال اختيار العناصر الموالية للنظام حزبياً أو طائفياً أو عشائرياً أو أسرياً ، وتمييزها عن القوات المسلحة التقليدية من حيث التدريب والتسلح ، واختيار الثكنات العسكرية المجاورة لمقرات الحكم ، وتحت عناوين شتى : حرس جمهوري – قوات خاصة – قوات المغاوير .
– رعاية النظام الحاكم لأفراد المليشات الخاصة من خلال: الرواتب – التعويضات – الخدمات – التسهيلات – المزايا – المساكن القريبة وتمييزهم عن باقي افراد القوات المسلحة التقليدية والتي بدأت تتصف بالضعف والترهل ، والمعدة أصلاً لمواجهة العدو الخارجي .
– تأسيس العديد من الأجهزة الأمنية داخل المؤسسة العسكرية مهمتها الوحيدة هي مراقبة وإحباط أية محاولات انقلابية .
– عدم السماح لأية قوة سياسية بممارسة نشاطها التنظيمي داخل مؤسسة الجيش ، باستثناء حزب الحاكم وعُصبويته الضيقة .
استنتاجات ختامية :
– إن المهمة الأساسية للجيش الوطني في الدولة الديمقراطية الحديثة ، هي حفظ كيان الوطن والدفاع عنه ، وعدم التدخل في شؤونه السياسية والابتعاد عن المهام الإنقاذية والإنمائية.
– إن الجيش العربي السوري منذ تأسيسه ، قام على دعائم وطنية كُلانية معتمداً الولاء الوطني والاحتراف العسكري دون لوثة سياسية ، ولكن القوى السياسية السورية ما زالت تتبادل الاتهامات وتحمل كل قوة سياسية القوة الأخرى مسؤولية البدء في إدخال هذه اللوثة بعد سنوات من تأسيس هذا الجيش ، مع إجماع كافة القوى على تحميل حزب البعث ونظامه مسؤولية انتشارها واستفحالها خاصة بعد 8 آذار 1963 .
– إن إدخال اللوثة الطائفية للمؤسسة العسكرية السورية ، واستحداث القوات العسكرية الخاصة كأداة في يد النظام السوري ، ما هو إلا استمراراً لنهج الانتداب الفرنسي مٌؤسِسُ الوحدات العسكرية الطائفية بأشكال مختلفة لتأمين حماية نظامه الحاكم .
– سقوط أوهام الثوريين العرب أصحاب النزعة الاستعجالية في احداث التغيير السياسي والاجتماعي المطلوب بأسلوبهم الثوري المعهود الانقلاب العسكري ، وبدء سلوك الشعوب العربية المنتفضة طريق التغيير الديمقراطي السلمي وذلك باستخدام أسلوب القوة الناعمة الشعبية – تونس ، مصر – .
– عندما تستبيح قوات النظام الحاكم عموم مناطق البلاد مدناً وأريافاً وتمارس فيها التقتيل والتهجير لا يمكن اعتبارها جزءاً من جيش الوطن وإنما جزءاً لا يتجزأ من جيش ميليشيوي ٍ خاص .
– صحيح أن من أسباب نجاح ثورة 25 يناير المصرية إنضمام الجيش للشعب في ثورته الوطنية الديمقراطية ، ولكن مما سَهّلَ هذا الانضمام هو عدم وجود تنظيم سياسي للحزب الوطني الحاكم داخل المؤسسة العسكرية المصرية – مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الشعب المصري هو مفجر الثورة وصانعها – حيث أن الرئيس عبد الناصر كان قد استوعب الدرس واتخذ قراراً بحظر تسييس الجيش وتحزيبه عقب هزيمة حزيران 1967 ، وهي الحالة التي تنطبق على الثورة الديمقراطية التونسية حيث قام الرئيس بورقيبة حينها بحظر الحياة الحزبية داخل الجيش التونسي عقب الاستقلال مباشرة .
– يبدو أن جُلّ العسكريين العرب الذين استولوا على السلطة باستخدام أسلوب الانقلاب العسكري عقب الاستقلال ، لَمْ وَلَنْ يهبوا الديمقراطية لشعوبهم كمنحة خيرية ، لأن الديمقراطية حالة شعبية تصنعها الشعوب بنضالاتها الدؤوبة وكفاحها المتواصل دون منزع استعجالي ، وتُقدَم في سبيلها التضحيات الجسام (الانتزاع السلمي للديمقراطية).
– استطاعة قوات النخبة الملتحمة عضوياً بالنظام الحاكم ومن خلال قدراتها المتميزة ، قمع أية محاولات تمردية للقوات العسكرية التقليدية السورية نظراً لضعفها وترهلها ، والتي نُغلِّبُ انكسار قوامها وتماسكها في حال استمرار عمليات القتل والقمع وحصار المدن والانتشار الجغرافي الواسع لها لفترة زمنية أطول ، والتحاق أفرادها بالاحتجاجات الشعبية دون أسلحتهم باستثناء المحدودة منها (انفراط عقدها) .
وأخيراً / إن سبيل الخروج من المأزق الوطني الراهن هو سلوك سبيل الاحتجاج الشعبي السلمي وأداته القوة الناعمة الشعبية مدخلاً لإسقاط النظام الحاكم ، وإنجاز التحول الديمقراطي ، والذي لا يمكن تحقيقه من خلال الرهان على التدخل العسكري الخارجي (العراق) أو الرهان على استخدام العنف الداخلي (الصومال) ، كون الرهان الأول ينتمي إلى نهج الخيانة الوطنية ، في حين أن الرهان الثاني يفتح الباب أمام مخاطر الحرب الأهلية وتَعرُض الوحدة الوطنية والترابية للتقسيم في ظل التعددية العرقية والدينية والطائفية لسوريتنا .
نعم للقوة الناعمة الشعبية
نعم للإرادة الوطنية الداخلية
نعم للحرية لا للعنــــــــف لا للاستبداد
لا للتدخل العسكري الخارجي