تحدثنا في الجزء الأول فقه الأولويات وأهميته في فقه الواقع و السياسية الشرعية عن تعريفه، وعن أهم الموضوعات في ترتيب سلم الأولويات في الفقه السياسي، وفي هذا الجزء نكمل الباقي.
البناء الأخلاقي:
لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) سورة الجمعة(2). قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [الشمس:9]. فتزكية النفس المؤمنة بالخلق الحسن والقيم النبيلة من ضرورات التغيير المنشود. بل إن بناء الهيكل الأخلاقي له أكبر الأثر في التأثير في الآخرين، لأن حسن الأخلاق من مقومات ثبات المجتمع ولمعان بريقه في عيون الغير.
رعاية الضروريات، ثم الحاجيات، ثم التحسينيات:
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بجملة من المصالح للعناية بها وإقامتها في المجتمع، ولتفاوت درجات هذه المصالح في الأهمية، تقدم المصالح الضرورية على المصالح الحاجية، وتقدم المصالح الحاجية على المصالح التحسينية.
أ) الضروريات:
يقول الشاطبي في تعريفها: ((ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين)) ([1]) .
وقد جاءت كل أمة بحفظها وهي: حفظ الدين, والنفس، والنسل، والعقل, والمال, وقد شرع الإسلام لحفظ هذه الضروريات ما يجلبها وما يحفظها، وهي متفاوتة في درجاتها، فأولها وأولاها، حفظ الدين، فهو مقصد الحياة، لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
فلا يجوز التنازل عن الدين وتركه لأجل أي من هذه الضرورات، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، قال تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل:106]، كما حصل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه، إذ شتم نبيه، تحت الإكراه.
ب) الحاجيات:
وهي التي يتعلق بها رفع الحرج في العبادات والعادات والمعاملات([2]). فقد تميزت هذه الشريعة السمحاء برفع الحرج عن أهلها، لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]. وقوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة:286]. والحاجة إلى الحاجيات تكون دون الضرورات التي لو فقدت لاختل نظام الحياة.
فالحاجيات لو فقدت لَلَحِقَ بالناس حرج ومشقة، في عباداتهم، كالصيام في نهار رمضان للمسافر والمريض، وما يلحق بالناس من حرج في عاداتهم، كالمأكل والمشرب والمسكن والملبس، ودرجة الحاجيات في هذه العادات هي درجة التوسط، فالحد الأدنى منها يعد من الضروريات، والحد الأعلى من التحسينيات.
ج) التحسينيات:
تكون فيما يتعلق بمكارم الأخلاق([3]). وهي: ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة، وهي: ((خادم للأصل الضروري ومحسنة لصورته الخاصة))([4]). وبها يظهر ((كمال الأمة في نظامها حتى تعيش أمة آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها، أو في التقرب منها))([5]).
عدنان الصوص
(1) ((الموافقات)) (2/8).
(2) انظر: ((الموافقات))، للشاطبي: (2/11)، ((الأحكام)) للآمدي (3/274).
(3) ((الموافقات))، للشاطبي (2/11).
(4) ((الموافقات))، للشاطبي (2/42).
(5) ((مقاصد الشريعة))، لابن عاشور، (ص82).