حكم تعدد دول المسلمين شرعاً

عند غياب الدولة الإسلامية الأم أو الإمام الأعظم, هل يثبت للدول القائمة حكمها فتصح لهم البيعة ويكون الجهاد ماضيـاً معهم وبإذنهم, وتكون علاقاتهم مع الغير لها صبغة شرعية؟

قبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من التنبيه أن ثمّة فرقاً بين حالتي القدرة والعجز عند تطبيق الأمر والنهي.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
((ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فان العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل)). ((مجموع الفتاوى)) (20/60-61).

وبمعنى آخر ثمّة فرق بين حالي الاختيار والاضطرار, ومن لم يفرق بينهما ((فقد جهل المعقول والمنقول)). ((العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم)) (8/174). لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:173], وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119].

فالمسألة بين يدي البحث هي فرع عن أصل وهو حكم عقد الإمامة. فمن المعلوم أن ((الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة “الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم)). ((الأحكام السلطانية)) للماوردي (ص5).

وإن لهذه الإمامة شروطاً وأحكاماً، ومن أحكامها حكم تعدد الأئمة وفيه عدة أقوال:

• القول الأول: قول الكرّامية بجواز ذلك مطلقاً سواء في حالة القدرة أم العجز، محتجين بأن علياً ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه، واحتجوا بجواز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة، وقد فند القرطبي حججهم في تفسيره عند قوله تعالى { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً }[البقرة:30]، في الجزء الأول، الصفحات(273-274).

• القول الثاني: قول الجمهور وهو عدم جواز تعدد الإمام الأعظم محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم” إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما” رواه مسلم في الإمارة رقم 1853. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)) [رواه مسلم في الإمارة، رقم (1852)].

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) [رواه مسلم رقم (1844) وأوله: ((إنه لم يكن نبي قبلي)).

وممن قال من الجمهور بعدم جواز تعدد الإمام الأعظم:

النووي: حيث رد على من قال بجواز عقد الإمامة لأكثر من واحد إذا اتسعت الأقاليم بقوله: ((وهو قول فاسد مخالف لما عليه السلف والخلف ولظواهر إطلاق الأحاديث)). ((شرح صحيح مسلم)) (12/232). وقال أيضاً: ((لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعدت إقليماهما، وقال الأستاذ أبو إسحق: يجوز نصب إمامين في إقليمين لأنه قد يحتاج إليه وهذا اختيار الإمام، والصحيح الذي عليه الجمهور هو الأول)). ((روضة الطالبين)) (10/47).

وقال محمد الخطيب الشربيني: ((ولا يجوز عقدها لإمامين فأكثر ولو بأقاليم ولو تباعدت لما في ذلك من اختلاف في الرأي وتفرق الشمل)). ((مغني المحتاج)) (4/132).

وقال ابن حزم الظاهري:
((مسألة: ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا إمام واحد والأمر للأول)). ((المحلى)) (9/360).

وقال الماوردي:
((وإذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد وإن شذ قوم فجوزوه)). ((الأحكام السلطانية)) (ص 9).

• القول الثالث:
يصح للاضطرار، وله ثلاث صور:

الصورة الأولى: التباعد في الأقطار:
ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة لتباعد الأقطار:

1. الشوكاني: ((وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر من أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته. فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر.

فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله، كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب. ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته، لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدرى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذا تكليف بما لا يطاق. وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد..

فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته, فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار. ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها)). ((السيل الجرار)) (4/512).

2. ابن كثير: بعد أن ذكر قول الجمهور القائلين بعدم الجواز قال: ((وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوّز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما. وتردد إمام الحرمين في ذلك.

قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب…)). ((تفسير ابن كثير)) (1/74).

3. القرطبيّ: بعد أن ذكر حديث “إذا بويع لخليفتين قال: ((وهذا أدل دليل على منع إقامة إمامين ولأن ذلك يؤدي إلى النفاق والمخالفة والشقاق وحدوث الفتن وزوال النعم ولكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخرسان جاز ذلك)). ((تفسير القرطبي)) (1/273).

4. أحمد بن غنيم بن سالم المالكي: قال: ((ولا يجوز تعدد السلطان إلا إذا تناءت الأقطار)). ((الفواكه الدواني)) (1/396).

5. الأستاذ أبو اسحق: ونقل عنه كل من ابن كثير في قوله السابق والنووي في ((روضة الطالبين)) (ج10/47), جواز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما.

الصورة الثانية: التغلب. ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة للتغلب:

1. إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان: قال:
((وقال في (الغاية) ويتجه أنه لا يجوز تعدد الإمام، وأنه لو تغلب كل سلطان على ناحية كزماننا فحكمه كالإمام)). ((منار السبيل)) (2/353), وقد توفي عام 1353هـ.

2. الصّنعانيّ: قال:
((قوله: عن الطاعة, أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه. وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار، إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية، بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم. إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلّت فائدته)). ((سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام)) (3/499).

3. محمد بن عبد الوهاب: قال:
((الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم)). ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (7/932).

الصورة الثالثة: العجز أو المعصية أو غير ذلك. ومن الفقهاء الذين قالوا بجواز تعدد الأئمة للعجز أو المعصية أو غير ذلك:

ابن تيمية: ((والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه, فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها أو عجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة, لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود, ويستوفي الحقوق..)) ((مجموع الفتاوى)) (34/ 175- 176).

صور لتعدد الأئمة في التاريخ الإسلامي

أولاً: من أقوال الفقهاء:

• محمد بن عبد الوهاب: ((لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد))، ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (7/932).

• الصّنعانيّ: ((إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية, بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم)). ((سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام)) (3/499).

• ابن كثير: ((قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق, والفاطميين بمصر, والأمويين بالمغرب…))، ((تفسير ابن كثير)) (1/74).

• الشوكاني: ((وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك))، ((السيل الجرار)) (4/512).

• ابن تيمية: ((ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة ـ أي المماليك ــ هي أقوم الطوائف بدين الإسلام علماً وعملاً وجهاداً عن شرق الأرض ومغربها… وسكان اليمن ضعاف عاجزون عن الجهاد، أو مضيعون له، وهم مضيعون لمن ملك هذه البلاد،… وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة،… وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون، وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد،… وأما بلاد أفريقية فأعرابها غالبون عليها، وهم من شر الخلق،… وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم، لا يقومون بجهاد النصارى هناك، بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم. فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة بالشام في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام, وعزهم عز الإسلام, وذلهم ذل الإسلام،..))، ((مجموع الفتاوى)) (28/533-534).

ثانياً: من أطلس تاريخ الإسلام:
عرض الأطلس بالشرح والخرائط تاريخ الإسلام منذ ظهور الإسلام إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري, ثم لخص ذلك في جداول تاريخية من صفحة (35-42), وضع فيه السنوات على الخط العامودي والأقاليم على الخط الأفقي.

وفيما يلي بيان عدد الدويلات الإسلامية في السنوات المختارة:

• (سنة 184- 288 هـ): [ العباسيون في معظم العالم الإسلامي حينئذٍ]، [الأغالبة في أفريقية وطرابلس]، [بنو رستم الخوارج في المغرب الأوسط]، [الأدارسة في المغرب الأقصى]، [الأمويون في الأندلس]، [الأغالبة في جزائر غرب المتوسط].

• (سنة 597 هـ): [الدولة العباسية في العراق]، [ممالك هندية في شرق الهند]، [الغوريون شمال ووسط الهند]، [قرة خيتاي فيما وراء النهر]، [الغوريون في أفغانستان]، [شاهات خوارزم في إيران]، [الحشاشون في القوقاز]، [بنو سلغور في القوقاز]، [أتابكة أذربيجان في القوقاز]، [السلاجقة في العراق]، [الأيوبيون في اليمن وعدن]، [القرامطة في شرق ووسط الجزيرة]، [الفاطميون في الشام ومصر]، [مملكة قبرص]، [الأيوبيون في مصر وطرابلس]، [الموحدون في بلاد المغرب والأندلس]، [دولة غانا الإسلامية].

• (سنة 803 هـ): [بلغ مجموع الدول 22 دولة, أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة]. ((أطلس تاريخ الإسلام))، (للدكتور حسين مؤنس, طبعة الزهراء للأعلام العربي ـ القاهرة, ويقع في (527) صفحة.
هذا والغريب أن بعض أبناء الصحوة الإسلامية يظنون وللأسف أن تعدد الدول الإسلامية في الوقت المعاصر لا سابق له في التاريخ. علماً أن الممالك الهندية وحدها كانت تزيد عن (25) مملكة.

قلت: وبالنظر إلى مقاصد التشريع، التي تبين لنا مدى أهمية الأمن والأمان، وأن من مقاصد الدولة الإسلامية حفظ البلاد والعباد والدين، ولو فرض تطبيق القول بعدم جواز كون الدويلات الإسلامية دويلات صحيحة، وعدم جواز تطبيق كونها دولاً لها أحكام الدولة الأم, لتنازع الناس نزاعاً لا انقطاع له، من أجل تحقيق الوجود الصحيح للدولة الأم، الأمر الذي يؤدي إلى ضياع البلاد والعباد، وانتهاك الحرمات والأعراض، واستحلال الأموال بغير وجه حق، مما يجعل هذا القول محض خطأ ونحن في قولنا بأن هذه الدويلات لها ــ كل واحدة على حدة ـ حكم الدولة الأم، حسما لمادة النزاع والفساد، نحن بهذا نُعمل قواعد الشرع التي منها:

1. ((الضرر يُزال))، ((عموم البلوى يرفع الحكم أو يخففه)).
2. ((تحقيق المقاصد أولى من النظر إلى الوسائل))؛ لأنه بإعمال هذه القواعد في إثبات شرعية هذه الدول على وجه الإجمال, ينتج لنا ما يحفظ الضرورات الخمس التي جاءت كل أمة بحفظها، والله أعلم.

فالقول بخلاف ما قلنا, مُجانب للصواب, مؤدٍ إلى ضياعٍ وفسادٍ, والشرع جاء بعصمة مال الرجل ودمه وعرضه, فكيف بدماء أناس مسلمين وذميين وغيرهم وأموالهم وأعراضهم, إذ القائل بغير ما قلنا, فكأنما يُهدر ويُبيح كل ما ذكرنا, الأمر الذي يصادم قواعد الشرع مطلقاً.

ومن هذا نخلص إلى ما يلي:
1. عند الاضطرار يجوز تعدد الأئمة.
2. يثبت لكل حاكم حكم الإمام الأعظم من حيث:
‌أ. التصرف الداخلي (السياسة الداخلية).
‌ب. التصرف الخارجي (السياسة الخارجية).

وهذا يقيم:
1. التصرفات المالية داخلاً وخارجاً.
2. التصرفات السياسية داخلاً وخارجاً.
3. التصرفات العسكرية داخلاً وخارجاً.
4. يثبت للحاكم عدم الخروج على شرعيته, وأن الأمور التي ذكرناها هنا مُناطة بإذنه.
5. تثبت له حقوق الإمام, وتجب عليه حقوق الرعية, كل ذلك ضمن المصلحة الشرعية وضمن الحدود الشرعية ما أمكن.
كتاب: مسائل في الجهاد

سمير بن عبد الرزاق مراد
عدنان الصوص

حكم تعدد دول المسلمين شرعاً
تمرير للأعلى