سوريا : في الطريق إلى دولة العصابة

1-الجذور:

” لكي نفهم النظام السوري لا يكفي أن نطالع علم السياسة، بل يجب مشاهدة فيلم العراب”. الشهيد سمير قصير.

هذا الوصف الذي كلف الشهيد سمير قصير حياته هل هو فعلاً ما يعبر عن طرائق عمل النظام السوري ؟ هل يستطيع علم الجريمة و علم النفس الإجرامي تفسير نشأة و تطور نظام القمع الأسدي بأحسن مما يقدر علما الإجتماع و السياسة ؟ هل هي صدفة أن فيلم “العراب” كان الفيلم المفضل لصدام حسين ؟

هذا ما نريد التنطع له و محاولة فهم أسباب “صمود” النظام الأسدي و تماسكه في وجه شعبه ، إضافة إلى تفسير انعدام الانشقاقات في صفوف ضباطه الكبار و سياسييه، ناهيك عن الدبلوماسيين.

كيف وصلت طبقة كاملة من المنتفعين و الوصوليين إلى السلطة وكيف تماهت مع النظام الذي يقتل شعبه بلا حساب؟ أيعقل أن لا يوجد شخص واحد في هذا النظام لديه ضمير لينأى بنفسه عن  المجزرة ؟ أي نظام هذا الذي ينعدم لدى كل زبانيته كل ضمير و يتصرفون جميعاً و كأنهم على قلب رجل واحد وقد اجتمعوا على القتل والبغضاء ؟

في تصوري أن النظام السوري سيبقى فريداً في تاريخ البشرية و أنه لم يلق حقه من الدراسة و البحث. أغلب الكتابات التي تتطرق للنظام و لمآلاته تكتفي بفضح ممارساته و بتبيان تناقضاته ، دون الغوص في أعماق نفسيات رجالات النظام و دون تحليل دوافع هؤلاء و أهدافهم المستترة وراء خطاب شعبوي و مقاوم لا هدف له غير إخفاء بشاعة دوافع النظام الحقيقية.

في هذه المقالات سنستعين بمبادئ علم النفس والتحليل النفسي، و بعلم الجريمة و النفس الإجرامي، و كذلك بالفلسفة الظاهرية (Phenomenology) .  هذه الفلسفة، وتلك العلوم، تدرس الأمور، بما فيها تلك السياسية، كظواهر تحكمها قوانين منطقية بهدف اكتشاف هذه القوانين و فهم ترابط هذه الظواهر مع بعضها و تسلسلها، اهتداء بالواقع وبما هو مثبت، دون التمسك بخطاب أو بنظريات قد يثبت قصورها عن تفسير الواقع بشكل عقلاني و منطقي.

المطلوب هو رؤية الواقع كما هو و ليس كما نريد أن يكون، ثم الانطلاق إلى محاولة فهم هذا الواقع عبر تحليل منطقي و عملاني، غير نظري و غير مثالي، بعيدا عن الرغبات و التمنيات. بكلام آخر، نريد دراسة نشوء و تطور النظام الأسدي تماماً كما لو كان الأمر متعلقاً بفعل إجرامي و ليس كمجرد ظاهرة سياسية.

لا بد في هذا الحال من دراسة نفسيات اللاعبين الأساسيين في النظام السوري ، الأب ثم الابن في محاولة لفهم دوافعهم و أهدافهم و كيف وصلوا إلى مبتغاهم. ماهي العوامل التي سهلت وصولهم إلى الحكم و لماذا دام  بقاؤهم في السلطة. هذا سيساعد ربما على تفسير تحركاتهم المقبلة و استقراء أهدافهم المستقبلية.

قراءة سيرة اﻷسد اﻷب المتوفرة للقارئ العربي لا تسمن ولا تغني من جوع. هذه الرواية الرسمية شبيهة بسيناريو اﻷفلام الهندية التي تهدف للتسلية لا للفهم. حافظ اﻷسد نشأ في قرية غنّاء “أشبه بالريف الفرنسي” على قول باتريك سيل في كتابه الشهير. أبوه علي اﻷسد “رجل وقور و محترم يعلي قدر التعليم و الثقافة” و جدّه “سليمان الوحش” كان مضرب المثل في القوة و الشجاعة والحكمة ” فكان أهل القرى يحكّمونه في أمورهم” أيضاً على قول باتريك سيل. وفق الرواية المعتمدة : حافظ اﻷسد توصل “بذكائه و حنكته” ٳلى تجاوز وضاعة منشئه و صار رئيساً “علوياً” لبلد أغلب سكانه سني مسلم.

سيناريو مثالي لفيلم سينمائي مسلي. لكننا جميعاً نعرف أن الشاشة الفضية شيء و الواقع شيء آخر.

القراءة اﻷولية لسيرة اﻷسد، استنادا لذات المصدر، تعّلمنا أن اﻷسد اﻷب جاء من أسرة تعلي من شأن التعليم و المعرفة، قائمة على الطاعة المطلقة بل و الخضوع لسلطة أبوية “اﻷطفال يقبلون يد أبيهم و لا يحق لهم الكلام في حضرته”. هذه ليست أسرة ديمقراطية يعبر فيها كل فرد عن نفسه، بل هي قائمة على مبدأ “نفذ ولا تفكر في الاعتراض”. كثير من اﻷسر العربية المحافظة تشبه هذه العائلة فأين يكمن الفرق ٳذاً؟

باتريك سيل يلقي ضوءاً خافتاً على بعد آخر خفي في حياة آل اﻷسد : القوة و العنف. الجد اﻷكبر “المؤسس” سليمان الوحش صنع لنفسه ٳسماً لا بذكائه و لا بعلمه بل بقوته الجسدية و بقدرته على استعمال العنف غير المحدود ضد الآخر. عائلة الوحش التي ستصبح “اﻷسد” هي عائلة بَنَت سطوتها على العنف و القوة، ليس على اﻷخلاق ولا على الكرم أو الوطنية.

جاء حافظ ٳذاً من عائلة تعلي من شأن التعلم و الطاعة و تعتبر العنف و القوة وسائل طبيعية لتحقيق أهدافها. مسيرة اﻷسد المقبلة لن تخرج عن هذا اﻹطار.

حين طالب أعضاء القيادة القطرية بمساءلة حافظ اﻷسد عن اتصالاته في لندن التي زارها للعلاج عام 1966 رد عليهم صلاح جديد حرفياً : “لا نستطيع أن نطرح هكذا سؤال على الرفيق حافظ  وزير الدفاع و قائد سلاح الجوﻷنه هددنا في حالة الشك بأقواله بقصف دمشق بالطائرات !”. هذا المثال يوضح ما ذهبنا ٳليه بشأن التراث العائلي لآل اﻷسد : القوة هي القيمة العليا المؤسسة للعائلة اﻷسدية. حين الحاجة، لا حدود للعنف المطبق على القريب و البعيد. في هذا يختلف النظام اﻷسدي عن اﻷنظمة الفاشية التي تعتبر العنف جزءاً من السياسة ، فتستخدمه بمقدار ، و يقترب من اﻷنظمة الهتلرية و الستالينية التي تمارس العنف كسياسة قائمة بنفسها و لنفسها. اﻷسد اﻷب ثم الابن يبدوان أقرب “لبول بوت” منهم لكاسترو أو لفرانكو.

المثال الحموي في الثمانينات و ما يجري على يد اﻷسد الصغير اليوم لا يعدو كونه استمراراً لذات المبدأ : العنف بديلاً عن السياسة. هو عنف أعمى قبلي و أهوج، هذا عنف نرجسي و منحرف هدفه القضاء على الآخر ﻹدامة الذات و ٳعلاء شأنها. علم الجريمة وليس علم السياسة، قادر على ٳلقاء الضوء على هذه الظاهرة.

المثال اﻷقرب هو المجرم المغتَصِب، الذي يقتل ضحيته البريئة لا لسبب سوى لأنها رفضت الخضوع لنزوات و أهواء مغتصبها الذي يعتبر الآخر مجرد أداة لتسليته و ﻹرضاء نزعاته السادية. أليس هذا ما يحصل حين يقتل زبانية اﻷسد المتظاهرين العزّل لمجرد الشك بوطنيتهم ولمجرد مطالبتهم بأبسط حقوقهم. أطفال درعا، قبل حمزة الخطيب و باقي الشهداء، هم أنصع مثال على هذا العنف البربري النازي.

هل العنف وحده هو ما يفسر سياسة اﻷسد ؟ أم أن هناك و جهاً “عائلياً” آخر؟

حين كتب “علي اﻷسد” والد حافظ، رسالته ٳلى المندوب السامي الفرنسي عام 1936 مطالباً بٳنشاء دولة علوية في سوريا، خوفا من “اﻷكثرية السنية الظالمة” جاء فيها :

“هؤلاء السنة لا يخافون الله و لا يحترمون حق الآخرين في الوجود و الاختلاف. أنظروا ٳلى ما يفعلونه في أخوتنا اليهود في فلسطين، حيث يقاطعونهم و يرفضون التعامل معهم بل و يثورون ضد توافدهم على فلسطين هرباً من اضطهادهم في أوربا…”.

في نفس الوقت كان علوي آخر، وطني، يكافح من أجل استقلال سوريا كلها و يرفض الاستقلال بدولة علوية عاصمتها اللاذقية، فهل كان “صالح العلي” خائناً لبني جلدته ، أعمى البصيرة و جاهلاً بنوايا “السنة العدوانية” ؟ أم أن “علي اﻷسد” كان كارهاً، ببساطة، للآخر السني الذي لم يؤذه بشيء ؟ بكلمة أخرى، هل كان علي اﻷسد “يُسقط” كراهيته الشخصية على الآخرين؟

اﻹسقاط هو ظاهرة نفسية يلقي فيها المرء بعيوبه و مخاوفه على الآخر، على مبدأ “رمتني بدائها و انسلّت”. هذا يعني أن “علي اﻷسد” كان، في قرارة نفسه، يكره الآخرين و خاصة أهل السنة دون سبب وجيه و خَيّلت له نفسيته العدوانية أن “الآخرين هم من يكرهونه”.

اﻹسقاط، مثل نفي الآخر و استسهال العنف، هي من سمات الشخصية المنحرفة، المعادية للمجتمع”السيكوباتية”. هذا اﻹسقاط ذاته نجده حين يسم النظام اﻷسدي معارضيه بالخيانة و التآمر، في حين يرتع هذا النظام في ظل حماية “العدو الٳسرائيلي” و يلقى الدعم من أعداء الشعب و كارهي الحرية.

حافظ اﻷسد نشأ ٳذاً في كنف أب يعتبر العرب المسلمين السنة “أعداء” و يعتبر اليهود “أخوة”. فهل استمر اﻷسد اﻷب في طاعة أبيه كما تربى دوماً ؟ كيف وافق حافظ بين واجب الطاعة ﻷبيه الخائف من السنة والمطالب بدولة علوية وبين انتمائه السياسي لحزب قومي عروبي، رافض للعصبيات القبلية والدينية و يسمي نفسه “حزب البعث العربي الٳشتراكي” ؟

هل مارس حافظ اﻷسد “التقية” و أعلن ما لا يضمر؟ هل جاهرصاحبنا بخطاب قومي  و عروبي ﻹخفاء دوافعه الحقيقية وأفعاله الغير معلنة ؟ ماهي دوافع  اﻷسد الكامنة و ما هو هدفه النهائي؟

هذا ما سنحاول رؤيته في المقالات المقبلة.

أحمد الشامي.   نشرت في “حريات” جريدة اسبوعية في الداخل السوري العدد 16

Scroll to Top