الشاطر اردوغان و طبخة البحص السورية

بقرارها تعليق مشاركة الوفد السوري في اجتماعات الجامعة و لجانها، وصولاً ٳلى التعليق الكامل لعضوية سوريا في الجامعة، تبدأ الجامعة العربية رحلة خروجها من المستنقع السوري و ٳعادة ملف نظام اﻷسد ٳلى اﻹطار اﻹقليمي و الدولي اﻷقدر على مواجهة نظام الشبّيحة في دمشق. النظام الغاضب أدرك سريعاً أن مناوراته مع شعبه و مع العرب، فاقدي اﻷنياب، سوف لن تنفعه حين يجد نفسه يواجه من هو قادر على التحدث ٳليه باللغة الوحيدة التي يفهمها، القوة.

أول المعنيين بخروج الملف السوري من متاهات الجامعة العربية هو رجب طيب اردوغان. من المبكر معرفة ٳن كان الرجل مسروراً بهذه الهدية المسمومة، فالرجل لديه حساب مع نظام اﻷسد و من غير المعرف كيف سيصفي حسابات الماضي القريب. المهم أن الجامعة بخطوتها هذه تضع حاكم أنقرة أمام مسؤولياته و”تورطه” في ملف سوري معقد، قد يحرق أصابع رجل السياسة التركي الشاطر.

رجب طيب اردوغان رجل سياسة من الطراز اﻷول، بدأ حياته في بازار اسطنبول قبل أن يصبح عمدة لهذه المدينة، حينها احتك صاحبنا بعسكر اتاتورك الذين أرسلوه للسجن بعد ٳلقائه لقصيدة اعتبرها حكام انقرة في حينه “تهديداً لعلمانية الدولة”. من هذه الواقعة تعلم اردوغان، سريعا، كيف يناور في المنطقة الرمادية و أتقن فهم الذهنية العسكرية الحاكمة. “الشاطر” اردوغان انتهى، بعد سنين وبعدما أصبح رئيسا للوزراء، ٳلى تفكيك سلطة العسكر بطريقة ديموقراطية مرضية للأتراك و حتى لقطاعات واسعة من العسكر الذين تابعوا بسرور نجاحات اردوغان في مجالات الاقتصاد و السياسة و التي أدخلت بلدهم ٳلى نادي الدول العظمى اقتصادياً.

عسكر أنقرة قبلوا البقاء في ثكناتهم ﻷنهم وطنيون قبل أن يكونوا اتاتوركيين. هم فهموا أن مصلحة تركيا تسمو على كل شيء وأن الاتاتوركية ليست هدفاً لذاتها بل هي طريقة عمل لمصلحة بلدهم اﻷم. هكذا افتتح العسكر و اردوغان صفحة جديدة لا تطوي السابقة بل تحافظ على خير ما فيها و تضيف ٳليه أبعاداً و نجاحات جديدة. بين أناس وطنيين و عقلانيين من الممكن دائماً الوصول ٳلى حلول وسط مرضية للجميع بحد أدنى و بما يضمن مصلحة البلاد.

مع بزوغ فجر الربيع العربي تصور اردوغان أن بٳمكانه وضع خبرته هذه في تصرف الشعوب العربية و أن ما حصل في تركيا يمكن تعميمه على البلاد العربية الواقعة تحت حكم أنظمة عسكرية. اردوغان الانفعالي و الصادق في مشاعره، لم يكترث لخبرائه حين أوضحوا له أن “شتان ما بين عسكر تركيا الاتاتوركية و بين أفاقي بلاد العرب من القومجيين المتعسكرين”.

اردوغان تورط أولاً في تصريحات “أن لن تكون هناك من حماه جديدة” التي ساهمت في رفع معنويات السوريين وخاصة السنة منهم و كانت مما ساعد في ٳشعال الثورة السورية. اردوغان اﻹنسان “الطبيعي” و الصادقً مع نفسه لم يتصور أن صديقه المثقف “بشار” سيبدأ من حيث انتهى مهووس ليبيا، بفتح النار مباشرة على المتظاهرين العزل.

بعد “الكبوة” الليبية، حين قدم اردوغان مبادرات لحل سلمي في ليبيا رفضها الجميع بما فيهم القذافي، بدأ اردوغان يدرك أن  شطارته و خبراته في البازار السياسي التركي لا تنفع في حقول القتل العربية وأن أحداً من قادة وعسكر ليبيا و الشام لا يتمتع بأدنى حس أخلاقي أو وطني وأنه “يطحن في الماء” حين يخاطب الحس الوطني لهؤلاء.

في ليبيا، ألقى الناتو حبل النجاة لاردوغان الذي تمكن من القفز من سفينة القذافي الغارقة و اللحاق بأساطيل الناتو المنتصرة. هذا ما لم يحصل في سوريا ٳلى الآن حيث لا زال صاحبنا عالقاً بين دعم الثورة السورية وبين مصالحه مع نظام اﻷسد و خوفه من العواقب.

خطأ اردوغان هو أنه تصور أن لدى حاكم الشام من اﻷخلاق و الوطنية ما يؤهله لاستشفاف المخاطر المحدقة ببلده واستباق رغبة شعبه في التغيير وصولا ٳلى ٳطلاق آلية سياسية متحضرة تسمح بانتقال سوريا تدريجياً من الحكم العسكري ٳلى ديموقراطية محدودة تتطور تدريجياً، عبر سنوات، ٳلى دولة مدنية عصرية، تماماً كما جرى في تركيا. فات اردوغان أن “عسكر” الشام وأسدهم ليسوا كعساكر تركيا وأن شتان ما بين الثرى والثريا فالوطنية و اﻷخلاق بضاعة مفقودة لدى أهل السلطة في بلاد الشام، من “أسد البلاد المفدى” وصولاً ٳلى قادة الفرق واﻷلوية مروراً بالدبلوماسيين و بعناصر الجيش و اﻷمن، ممن لم ينشقوا بعدما شاهدوا  بأم أعينهم حقيقة نظام الممانعة و مدى دمويته ضد شعبه اﻷعزل.

رهان اردوغان على عقلانية أو وطنية “أحد ما” في النظام يستمع لنصائحه و يوصل الجار السوري ٳلى بر اﻷمان انتهى وبالاً عليه وعلى سياسة “صفر مشاكل مع الجوار”. بالنتيجة، أخلاق اردوغان و نشأته و مصداقيته  لا تسمح له بالسير في ركاب نظام الممانعة اﻷسدي ولو نفاقاً، في نفس الوقت لا تؤهل حراجة الموقف اﻹقليمي و تشابكات الدور السوري تركيا للعب دور فاعل في الملعب السوري في الوقت الراهن.  هكذا انتهت مداخلات صاحبنا ٳلى “طبخة بحص” تغضب الثائرين و النظام معاً!

الشعب السوري الثائر غاضب و بحق من “خذلان” اﻷتراك له و تقاعسهم عن دعم الثورة والنظام اﻷسدي أيضاً غاضب و لا يني يرسل الرسائل الدموية واﻹهانات لحاكم أنقرة : من تحريك حزب العمال الكردستاني عسكرياً وٳعادة فتح جروح الصراع الكردي الاتاتوركي بما يوهن اردوغان و يضعفه داخليا، ٳلى اغتيال رسول السلام العربي التركي الكردي مشعل تمو بما يغلق خط الاتصال التركي مع المعتدلين اﻷكراد، يليه اﻹيعاز ٳلى حكومة المالكي بالاحتجاج ضد الغارات التركية في شمال العراق، ثم خطف المقدم المنشق “حسين الهرموش” و ٳعدامه بعد الاستعانة بالمافيا التركية و بضباط مخابرات أتراك من الطائفة العلوية ! مما يشكل صفعة مدوية للنموذج التركي للدولة الحديثة، و أخيراً الاعتداء على الممثليّات الدبلوماسية التركية في سوريا، جنباً ٳلى جنب مع مثيلاتها القطرية و السعودية.

كل هذا واردوغان عاجز عن الرد بغير تهديدات و تصريحات لا تسمن ولا تغني من جوع، فهل هو خائف من المارد اﻹيراني حليف اﻷسد؟

الحسابات اﻹيرانية فيما يخص نظام اﻷسد معقدة و مرتبطة من جهة بضرورات المشروع النووي اﻹيراني و مآلاته و من جهة أخرى باحتمالات الربح و الخسارة اﻹيرانية المتأتية من دعم نظام مكروه و آيل في النهاية للسقوط. الهجمة الغربية على ٳيران تبدو أشبه بتحذير لها من المغالاة في التورط على الجبهة السورية و تذكيراً لحكامها بأنهم ليسوا في منجى من المحاسبة. في هذا المضمار تبدو التصريحات الحربجية باتجاه طهران كما لو كانت تهدف لتحييدها في الملف السوري، و ربما ﻹطلاق يد تركيا العضو في حلف الناتو قريباً في معالجة اﻷزمة السورية.

مع ذلك و ٳن أمكن استثناء الدخول اﻹيراني عسكرياً على خط اﻷزمة السورية تبقى ثلاثة عقبات رئيسية تعترض الدخول التركي القوي على خط اﻷزمة السورية:

أولها الغطاء العربي الممنوح لنظام القتل في دمشق. هذا الغطاء في طريقه للتلاشي بفضل دموية النظام و عنجهيته. عودة المصداقية للجامعة العربية لا تسر لا النظام السوري ولا حاميه اﻹيراني الذي كان يخطط للاستفراد بتركيا أو بالعرب، كل على حدة. قرار الجامعة العربية بطرد سوريا من عضويتها يشكل رسالة قوية لطهران بالبقاء على الحياد عسكرياً فيما  يخص سوريا، الدولة العربية.  من جهة أخرى، وضع تركيا في سلة واحدة مع عرب الخليج، من قبل نظام اﻷسد، مؤشر على مرحلة قادمة من التعاون بين الطرفين يخشاها اﻷسد. هذا التعاون العربي التركي قد يفتح الباب مستقبلاً أمام تركيا للعب دور موازن للدور اﻹيراني في المنطقة.

العامل الثاني هو الفيتو الروسي الصيني المعطل لمجلس اﻷمن. الصين بدأت تنأى بنفسها عن “المسلخ” اﻷسدي و ربما لن تعرّض مصالحها الواسعة في الخليج و مع الشعوب العربية للخطر كرمى لعين نظام محتضر، خاصة أن تركيا قادرة على تفعيل منطقة عازلة بعمق 5 كلم قرب حدودها ودون الرجوع لمجلس اﻷمن. يكفيها لذلك غطاء عربي و بعض استفزازات كردية. الروس سيجدون أنفسهم في موقف صعب، قد تستخدم المافيا الحاكمة في موسكو الفيتو مرة أو اثنتين لحماية القتلة في دمشق من اﻹدانة، لكنها بهذا تخاطر بالباقي من رصيد الاتحاد السوفياتي الزائل الذي أورثها هذا الفيتو. في نفس الوقت ستبدو روسيا في وجهها البشع أمام العرب و العالم وفي النهاية، لم يحم الفيتو الروسي لا صدام ولا ميلوسيفيتش.

العامل الثالث هو العامل اﻹسرائيلي، فٳسرائيل تبقى المدافع اﻷخير عن نظام الصمود اﻷسدي، حامي حدودها الشمالية و حارس الجولان المحتل “أهدأ بقعة في ٳسرائيل”. هل تقدر ٳسرائيل لوحدها على ٳنقاذ اﻷسد من مصيره المحتوم، ولو ٳلى حين؟ هل تعتبر ٳسرائيل أن اﻷسد قادر على الخروج من أزمته قوياً بما يكفي لكي يستمر في خدمة مصالحها و حماية احتلالها للأرض السورية؟ هل تريد ٳسرائيل تحويل نظام اﻷسد بشكل كامل ٳلى “أنطوان لحد و جيش لبنان جنوبي” جديد لحمايتها و هل تريد حمل هذا العبء؟ أم أن ٳسرائيل تخشى من انتقام اﻷسد الساقط و من صواريخه ٳن هي قصّرت في حمايته؟ اﻷكيد أن تدهور علاقات تركيا و ٳسرائيل منح اﻷسد فرصة ذهبية للعب على تناقضات الحليفين السابقين.

في هذه الاثناء سيستمر الدم السوري بالسيلان في انتظار الوصول ٳلى تفاهمات جديدة، دولية وٳقليمية، في المنطقة قد تحسم مصير النظام اﻷسدي.

حتى ذلك الحين، ستبقى تصريحات اردوغان أشبه بطبخة البحص التي تحرق أصابعه و اصابع السوريين الذين وثقوا به.

د أحمد الشامي

Scroll to Top