البعض لديه في العقل الباطن، وإن لم يصرح به، اعتقاد أن الثورات العربية، وبسبب مرجعيتها الجماهيرية، مبرأة من كل عيب كأنها خلقت كما تشاء الجماهير. وهذه كارثة، خاصة إذا لم يتوقف قادة الرأي العام عن مجاملة الجماهير وقول الحقيقة، ولو كانت مُرة. والمشكل في الأمر أنك حين تنتقد ظاهرة معينة تحملك الغوغاء إلى الطرف النقيض، فأنت إذا انتقدت جريمة «القاعدة» وتنفيذها لهجمات 11 – 9 فأنت من المتأمركين، حتى ولو كان رأيك باعثه الشفقة على العمل الخيري والدعوي الذي ضرب في الصميم، وإن قلت إن هدم سور السفارة الإسرائيلية في القاهرة هدم لهيبة الدولة وإن الاعتراض على وجود السفارة يجب أن يتخذ منحى قانونيا حضاريا، قذفوك مع المتصهينين، حتى ولو قلت وأنت محمول على الأيدي في وضعية القذف، إنك «ضد وجود السفارة الإسرائيلية أصلا»، سيقال لك «الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين؟»، وإن قلت إن «قلة» من الثوار المصريين أفسدت غايات الثورة المصرية النبيلة بالإكثار «الماسخ» من المظاهرات، قالوا إنك تدافع عن النظام البائد وضد الجماهير المظلومة الهادرة.
يا سادة، الجماهير على الرأس والعين، لكن لكل فرد من الثمانين مليون مصري غايات وحاجات واحتجاجات. فلو باسم الحرية والديمقراطية تركنا من شاء أن يفعل ما يشاء كيفما شاء، وأن يصحح ما يراه معوجا وأن يأخذ القانون بيده فقُل على الأمن والاستقرار السلام. إن الكره للغطرسة الإسرائيلية المتغلغل في نفوس المصريين والعرب جلب تعاطفا جماهيريا عربيا مع الهجوم على السفارة الإسرائيلية، لكن هل ينتهي الأمر عند أمر حبذته أغلبية جماهير الثورة كهذا الهجوم؟ قلت في مناسبة سابقة إن الأمر لن ينتهي عند هدم سور السفارة الإسرائيلية، وإن الجماهير الثائرة ربما توجهت للهجوم على سفارتي أميركا وبريطانيا، حينها اعترض علي بعضهم وقال إن الجماهير ليست بهذه السذاجة لتتصرف بمثل هذه التصرفات الطائشة، وكانت المفاجأة أن يأتي الاعتداء على سفارة السعودية الشقيقة، وقطعا أن الذي تجرأ على الأولى استسهل الهجوم على أي سفارة، ربما كان السبب خطأ ارتكبته «الخطوط السعودية» أو لأي سبب آخر في نفوس «الثوار»، هل بهذه الطريقة المتخلفة تحل المشكلات ويعالج القصور؟
لقد قلت في تغريدة على «تويتر»: «إن الثورات، كما الحكومات والأحزاب والجماعات، يجب أن يوجه لها النقد والتسديد والتقويم بكل شفافية، وإلا تسلطت وفسدت واستبدت هي الأخرى»، بل ذهبت إلى وصف الإكثار من التظاهر على أي شيء ولأجل أي شيء بأنه «دلع ثوري» حتما سيصرف الشعب والحكومة عن التوجه لحل أزماتهم الكبرى، إن كانت جماهير الثورة ستصحح أخطاء وفساد ما قبل الثورة على هواها وبالطريقة التي تراها، فهي الفوضى العارمة، فشريحة من الجماهير ستعمد إلى دور السينما لحرقها لأنها سبب الفجور والخنى والزنى، وشريحة أخرى في المعسكر المقابل ترى أن الجمعيات الدينية مصدر للتطرف والانغلاق والتأجيج الطائفي فيجب حرقها هي الأخرى وأدا للفتنة في مهدها. سيناريو مروع يجب أن يواجه بحزم، كما يجب أن يوازي هذا الحزم سرعة في تنفيذ الإصلاحات التي تعطش الناس لها بعد سنين الاستبداد المجدبة.
إن خيانة الثورات ليست في تأييد أنظمة فاسدة بائدة، ولكن أيضا في التلكؤ في مواجهة الثورات بالنقد والتقويم بكل صدق وشفافية.