كتاب الفقه السياسي
تحدثنا في موضوع سابق عن فقه الموزانات وقلنا بأنه سوف نستعرض قصة مهمة تثبت مدى أهميته، حيث روى تاج الدين السبكي في أحداث سنة 616هـ، قصة تدل على مدى خطورة وأهمية فقه الموزانات، حصلت الحادثة بين جنكيزخان طاغية التتار والسلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش، أحد سلاطين المماليك، وكان ملكاً عظيماً، اتسعت ممالكه، وعظمت هيبته، وأذعنت له العباد… والقصة تُحَمّل هذا السلطان نتيجة ما حل بالمسلمين على يد التتار من ألوان الدمار والقتل، بسبب عدم تسليم نفس واحدة من المسلمين لجنكيزخان، وتفصيل القصة بتصرف يسير، كما يلي:
((أن جماعة من التجار المسلمين، خرجوا الى بلاد جنكيزخان دون إذن السلطان خوازمشاه ومعهم المستظرفات. فقابلهم جنكيزخان وأكرمهم غاية الإكرام، ورداً على سؤاله لهم: لأي شيء انقطعتم عنا؟ فقالوا: إن السلطان خوارزم شاه منع التجار من المسافرة إلى بلادك، ولو علم بنا لأهلكنا.
فأرسل جنكيزخان رسله إلى خوارزم شاه لإعادة العلاقات التجارية المتبادلة بين البلدين. وأرسل من جهته تجاراً معهم أموال لا تعد ولا تحصى. فلما انتهوا إلى الأترار عمد نائب خوارزم شاه بها، فكتب إلى خوارزم شاه بأن يقتلهم ويأخذ أموالهم. فأصدر خوارزم شاه مرسوماً بقتلهم وسلب ما كان معهم. فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه: هذا الذي جرى، أعلمني هل هو عن رضى منك؟ إن لم يكن برضاك فنحن نطلب بدمائهم من نائب الأترار.
فكان جواب خوارزم شاه: أن هذا كان بعلمي وأمري، وما بيننا إلا السيف. فقام ولده السلطان جلال الدين وكان عاقلاً وأشار على والده أن يتلطف في الجواب ويخلي بين جنكيزخان ونائب الأترار، ويسلطه على دم واحدة يحمي به المسلمين من نهر جيحون إلى قريب بلاد الشام، ومساجد لا تحصى عددها، ومدارس، وأمم لا يحصون، وأقاليم. فأبى والده إلا السيف وأمر بقتل الرسل. فيالها من فعلة ما كان أقبحها! أجْرَتْ كل قطرة من دمائهم سيلاً من دماء المسلمين))([1]).انتهى
وهذا ما حصل لحركة طالبان من قريب. حيث رفضت ما كان رفضه سبباً في ضياع دولة وسقوطها. وعلى الذين لا يستطيعون تقدير هذه الأمور ولا يعرفون فقه الموازنات، ترك خيار التقدير لأولي العلم الفقهاء في الواقع، ثم احترام رأيهم، وعدم التعرض للحومهم، فهم ما قاموا بذلك إلا لحفظ مقاصد الشريعة، وعلى رأسها حفظ الضرورات.
وفي باب الترجيح بين المفاسد كذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:217]. فمن باب درء المفسدة الكبرى بالصغرى، أجاز لنا القرآن الكريم القتال في الشهر الحرام مع أنه كبير، لدفع ما هو أكبر.
وقوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ) [المائدة:82].
ودلالة الآية: ذكر لنا القرآن أسماء أشد الناس عداوة للمؤمنين من بين جميع الأعداء، لأخذ الحيطة والحذر من جهتهم. لذا فرّق الله سبحانه وتعالى بين المقاتلين لنا في الدين من الأعداء من غيرهم، كما في قوله: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الممتحنة:8-9]. يقول ابن تيمية: ((إذ الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، والورع ترجيح خير الخيرين بتفويت أدناهما ودفع شر الشرين وإن حصل أدناهما))([2]). ويقول: ((ومطلوبها ـ اي الشريعة ـ ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً))([3]).
إذن في حالة تعارض المفاسد، وانطلاقأَ من قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)[التغابن:16]، فإنه يُصار إلى دفعهما جميعاً، فإذا لم يندفعا جميعاً، دفعنا الأفسد فالأفسد، على النحو التالي:
– تدفع المفسدة المجمع عليها بالمفسدة المختلف فيها))([4]).
– تدفع المفسدة الكبرى بالصغرى([5]).
– تدفع المفسدة التي يترتب عليها ضرر عام بالتي يترتب عليها ضررٌ خاص([6]).
ولنا في قصة خوارزم شاه عبرة تثبت أهمية فقه الموازنات.
(1) ((طبقات الشافعية))، (1/232-233). تحت عنوان: واقعة جنكيزخان وحفيده هولاكو.
(2) ((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (30/193).
(3) ((فتاوى ابن تيمية في الفقه)) (23/343).
(4) ((مقاصد الشريعة الإسلامية))، للدكتور محمد سعد اليوبي، (ص399)، ط/1، دار الهجرة.
(5) المصدر السابق، نفس الصفحة.
(6) المصدر السابق، نفس الصفحة.