ذكرنا في الموضوع السابق ما هي شرعية تعدد الحكام و الدول في غياب الخلافة؟ حكم تعدد الأئمة عند الضرورة، وهذا الموضوع تتمة له، حيث نستعرض هنا أمثلة من التاريخ الإسلامي حصل فيها تعدد للدول والأئمة أو الحكام في العالم الإسلامي، وهذه الأمثلة ليست للاقتداء بها أو الافتخار بها، بل هي فقط لحالات الضرورة التاريخية.
أولاً: من أقوال الفقهاء:
محمد بن عبد الوهاب: ((لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد))، ((الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) (7/932).
الصّنعانيّ: ((إذ لم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية, بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم)). ((سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام)) (3/499).
ابن كثير: ((قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق, والفاطميين بمصر, والأمويين بالمغرب…))، ((تفسير ابن كثير)) (1/74).
الشوكاني: ((وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر كذلك))، ((السيل الجرار)) (4/512).
ابن تيمية: ((ومن يتدبر أحوال العالم في هذا الوقت يعلم أن هذه الطائفة ـ أي المماليك ــ هي أقوم الطوائف بدين الإسلام علماً وعملاً وجهاداً عن شرق الأرض ومغربها… وسكان اليمن ضعاف عاجزون عن الجهاد, أو مضيعون له, وهم مضيعون لمن ملك هذه البلاد،… وأما سكان الحجاز فأكثرهم أو كثير منهم خارجون عن الشريعة،…وأهل الإيمان والدين فيهم مستضعفون عاجزون, وإنما تكون القوة والعزة في هذا الوقت لغير أهل الإسلام بهذه البلاد،…وأما بلاد أفريقية فأعرابها غالبون عليها, وهم من شر الخلق،… وأما المغرب الأقصى فمع استيلاء الإفرنج على أكثر بلادهم, لا يقومون بجهاد النصارى هناك, بل في عسكرهم من النصارى الذين يحملون الصلبان خلق عظيم.
فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة بالشام في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام, وعزهم عز الإسلام, وذلهم ذل الإسلام،..))، ((مجموع الفتاوى)) (28/533-534).
ثانياً: من أطلس تاريخ الإسلام:
عرض الأطلس بالشرح والخرائط تاريخ الإسلام منذ ظهور الإسلام إلى آخر القرن الرابع عشر الهجري, ثم لخص ذلك في جداول تاريخية من صفحة (35-42), وضع فيه السنوات على الخط العامودي والأقاليم على الخط الأفقي.
وفيما يلي بيان عدد الدويلات الإسلامية في السنوات المختارة:
(سنة 184- 288 هـ): [ العباسيون في معظم العالم الإسلامي حينئذٍ]، [الأغالبة في أفريقية وطرابلس]، [بنو رستم الخوارج في المغرب الأوسط]، [الأدارسة في المغرب الأقصى]، [الأمويون في الأندلس]، [الأغالبة في جزائر غرب المتوسط].
(سنة 597 هـ): [الدولة العباسية في العراق]، [ممالك هندية في شرق الهند]، [الغوريون شمال ووسط الهند]، [قرة خيتاي فيما وراء النهر]، [الغوريون في أفغانستان]، [شاهات خوارزم في إيران]، [الحشاشون في القوقاز]، [بنو سلغور في القوقاز]، [أتابكة أذربيجان في القوقاز]، [السلاجقة في العراق]، [الأيوبيون في اليمن وعدن]، [القرامطة في شرق ووسط الجزيرة]، [الفاطميون في الشام ومصر]، [مملكة قبرص]، [الأيوبيون في مصر وطرابلس]، [الموحدون في بلاد المغرب والأندلس]، [دولة غانا الإسلامية].
(سنة 803 هـ): [بلغ مجموع الدول 22 دولة, أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة].((أطلس تاريخ الإسلام))، (للدكتور حسين مؤنس, طبعة الزهراء للأعلام العربي ـ القاهرة, ويقع في (527) صفحة.
هذا والغريب أن بعض أبناء الصحوة الإسلامية يظنون وللأسف أن تعدد الدول الإسلامية في الوقت المعاصر لا سابق له في التاريخ. علماً أن الممالك الهندية وحدها كانت تزيد عن (25) مملكة.
قلت: وبالنظر إلى مقاصد التشريع, التي تبين لنا مدى أهمية الأمن والأمان, وأن من مقاصد الدولة الإسلامية حفظ البلاد والعباد والدين, ولو فرض تطبيق القول بعدم جواز كون الدويلات الإسلامية دويلات صحيحة, وعدم جواز تطبيق كونها دولاً لها أحكام الدولة الأم, لتنازع الناس نزاعاً لا انقطاع له, من أجل تحقيق الوجود الصحيح للدولة الأم, الأمر الذي يؤدي إلى ضياع البلاد والعباد, وانتهاك الحرمات والأعراض, واستحلال الأموال بغير وجه حق, مما يجعل هذا القول محض خطأ ونحن في قولنا بأن هذه الدويلات لها ــ كل واحدة على حدة ـ حكم الدولة الأم, حسما لمادة النزاع والفساد, نحن بهذا نُعمل قواعد الشرع التي منها:
1. (الضرر يُزال)، (عموم البلوى يرفع الحكم أو يخففه).
2. (تحقيق المقاصد أولى من النظر إلى الوسائل)؛ لأنه بإعمال هذه القواعد في إثبات شرعية هذه الدول على وجه الإجمال, ينتج لنا ما يحفظ الضرورات الخمس التي جاءت كل أمة بحفظها، والله أعلم.
فالقول بخلاف ما قلنا, مُجانب للصواب, مؤدٍ إلى ضياعٍ وفسادٍ, والشرع جاء بعصمة مال الرجل ودمه وعرضه, فكيف بدماء أناس مسلمين وذميين وغيرهم وأموالهم وأعراضهم, إذ القائل بغير ما قلنا, فكأنما يُهدر ويُبيح كل ما ذكرنا, الأمر الذي يصادم قواعد الشرع مطلقاً.
ومن هذا نخلص إلى ما يلي:
1. عند الاضطرار يجوز تعدد الأئمة.
2. يثبت لكل حاكم حكم الإمام الأعظم من حيث:
أ. التصرف الداخلي (السياسة الداخلية).
ب. التصرف الخارجي (السياسة الخارجية).
وهذا يقيم:
1. التصرفات المالية داخلاً وخارجاً.
2. التصرفات السياسية داخلاً وخارجاً.
3. التصرفات العسكرية داخلاً وخارجاً.
4. يثبت للحاكم عدم الخروج على شرعيته, وأن الأمور التي ذكرناها هنا مُناطة بإذنه.
5. تثبت له حقوق الإمام, وتجب عليه حقوق الرعية, كل ذلك ضمن المصلحة الشرعية وضمن الحدود الشرعية ما أمكن.
عدنان الصوص